29وكما أنّ القرآن الكريم مرآة صافية لا يرى الناظر فيها إلاّ جماله أو قبحه، كذلك الكعبة مرآة لا غبار عليها يرى فيها الناظر وجهه الجميل أو البشع، من هنا فغير الطاهرين الذين تلوّثوا برجس الشرك ولوث الطغيان والتمرّد، لن يتمكّنوا من إدراك الكعبة بوصفها بيت الله المنزّه عن الحلول في المكان والمبرّأ عن الحصر في الزمان، والمقدّس عن الحاجة، والمسبّح عن الفقر والفاقة لأحد أو شيء، ولن يستطيعوا النجاح في الصلاة في حريمها؛ من هنا وصف الله عبادتهم في أطهر بقع العبادة بأنّه صفير وتصفيق، حيث قال: وَ مٰا كٰانَ صَلاٰتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاّٰ مُكٰاءً وَ تَصْدِيَةً 1، وسوف نبيّن في الفصل الرابع من القسم الثالث، عند الحديث عن «الطواف الجاهلي» السرّ في ورود هذا التعبير بحقّ عبادة المشركين.
5- محور القيام والقيامة
الكعبة محور القيام والمقاومة والثبات الإنساني على امتثال الأوامر الإلهيّة وتجنّب الباطل ومحاربة الظلم والجور، قال تعالى: جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ 2، والمراد من القيام هنا هو ما جاء في الآية الشريفة الاُخرى: قُلْ إِنَّمٰا أَعِظُكُمْ بِوٰاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلّٰهِ 3، والقيام في هذه الآية هو المقاومة والاستقامة - لا الوقوف واستقامة البدن، وفي مقابله القعود بمعنى الذلّة والقبول بالظلم والجور.
إنّ القيام والجهاد محور الدِّين الأصلي، وهو لا يعرف أبداً القعود والخنوع، قال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ 4، ومعتمد هذا القيام وعمود هذه المقاومة وأساس هذه الاستقامة الباعثة على قيام الناس ومقاومتهم أمام الجبّارين، في قيام الكعبة وحياتها، ودوام أمرها، تماماً كما قال الإمام الصادق(ع):
«لا يزال الدِّين قائماً ما قامت الكعبة» 5، والكعبة حيث كانت أساساً لقيام الناس وقوامهم وضعت في وسط الأرض حتّى يكون التكليف متساوياً بين أهل المشرق والمغرب 6.
إنّ حياة الكعبة حياة الدِّين، والناس تحيى بحياة الدِّين، ومع خراب الكعبة وانعدامها وتركها يموت الدِّين وبموته يموت الناس، إنّ الكعبة بمثابة عظم فقرات الظهر بالنسبة لدين الله، فإذا كانت قويّةً سالمة كانت مقاومة الإنسان ووقوفه وذهابه وسرعته في الوصول إلى المغفرة الإلهيّة والسبق في امور الخير أمراً ممكناً، أمّا إذا كان هذا العظم عاجزاً وضعيفاً وهزيلاً فإنّ الوقوف يغدو غير ممكن، واستقامته لا تكون ممكنةً، وسرعته وسبقه و... متوقّف على قيامه فتكون محالاً.
وعلى هذا الأساس، قال أمير المؤمنين(ع):
«والله الله في بيت ربّكم، لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن تُرك لم تناظروا» 7، ذلك أنّ ترك بيت الله وتخليته بمثابة سقوط العمود الذي يتكئ عليه الإنسان فإذا ما هُجر بيت الله فإنّه ينقطع الاتّصال بمركز القدرة، ومع قطعه سيغدو القيام بالقسط والمقاومة أمام الظلم والجور غير ممكنة، وهنا يكون خير الدُّنيا والآخرة ممنوعاً مقطوعاً؛ ذلك أنّ الكعبة هي عامل قيام الناس للدِّين والمعاش 8.
من هنا يقول رسول الله(ص):
«من أراد دنيا وآخرة فليؤمّ هذا البيت» 9، ومن أهمّ موارد أمّ الكعبة إنجاز الحجّ بآدابه ومناسكه العظيمة.
وأساس هذه الكلمات كلّها هو الآية الشريفة: جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ 10.
من هنا يعمد إمام الزمان، قائم آل محمّد(عليهم السلام) ، في بداية قيامه إلى جعل محور القيام والقوام بالنسبة للمجتمعات البشرية، أي الكعبة، معتمداً ومتّكأً له، فيسارع أنصاره إليه، كما يقول الإمام الباقر(ع):
«.. إذا تشبّه الرجال بالنساء والنساء بالرجال... وركب ذوات الفروج السروج.. وأُكل الرِّبا.. فعند ذلك خروج قائمنا، فإذا خرج أسند ظهره إلى الكعبة واجتمع إليه ثلاث مائة وثلاثة عشر رجلاً...» 11.
دور الاعتقاد والاقتصاد في قوام المجتمعات الإنسانيّة
يذكر القرآن الكريم الكعبة بوصفها عامل قيام الناس 12، كما يذكر القدرات الاقتصادية بهذه الصفة أيضاً، حيث يقول: وَ لاٰ تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً 13؛ وعليه فالمسألة الاعتقادية والأمر العبادي للكعبة والحجّ والعمرة هي قوام المجتمع في الاُمّة الإسلاميّة، وكذلك الاقتصاد، وهو أمر مادّي، إلاّ أنّ ثقافة القرآن لا تضع هذين الأمرين في مستوى بعضهما، بل الاعتقاد دائماً هو الأصل والبنية التحتيّة، فيما الاقتصاد فرع وبناء فوقي، وعندما يتزاحم الأصل والفرع يقدّم الأصل، من هنا لم تترك حادثة الحصار في شِعب أبي طالب أيّ أثر في الحدّ من انتشار الإسلام وقبوله في السنوات الاُولى لظهوره على المسلمين المعتقدين، كذلك لم يترك الحصار الاقتصادي الحالي من جانب الغرب الناهب أيّ أثر في اضمحلال الصحوة الإسلاميّة.
6- بيت الأحرار ومحور الحرّية
الكعبة بناء عتيق وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ 14، لم يكن تحت سلطان أيّ سلطة أو ملكيّتها، وقد كانت محميّةً على امتداد التاريخ من تطاول الطواغيت وتناول الملاّك، وتداول رجال الدولة والسلطة، كما كانت متحرّرةً - وما تزال - من أي سلطة بشريّة أو ملكيّة إنسانية، فلا تختصّ بشخص أو فريق أو قوم أو قوميّة أو عرق أو دولة أو حكومة، تماماً كما يقول الإمام الباقر(ع) حول سرّ وصف الكعبة بالبيت العتيق:
«هو بيت حرّ عتيق من الناس لم يملكه أحد» 15، فالله سبحانه لم ينسب هذا البيت من الأوّل لأحد غيره، فقال: طَهِّرْ بَيْتِيَ 16، كما أنّ باني الكعبة لم يملكها من حيث إنّه هو المأمور ببنائها، لذا لم ينسبها لغير الله تعالى، حيث قال: رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ 17.
وعليه، فالكعبة عتيقة من حيث قدمها التاريخي ونفاستها، فذات قيمة وسبق، كما أنّها عتيقة من حيث تحرّرها وانعتاقها من كلّ سلطة مالكة وقهر سلطاني، والطواف حول مثل هذا البناء يعطي درساً في الحرّية، ويحرّر الإنسان من كلّ أنواع العبودية عدا لله تعالى، وهذه العبودية هي