10يقال: ليس بعد العيان بيان، حتى نضج هذا الأمر كباقي المفردات الأخرى، لتشكل بدورها منظومة علوم القرآن التي هي بين أيدينا اليوم والتي لا يستغني عنها كل من يريد البحث في هذا الكتاب السماوي العظيم، معجزة الإسلام الخالدة..
فعن ابن مسعود - كما روي - أنه قال : «والذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله تعالى إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وأين نزلت».
فيما يقول القاضي أبو بكر في الانتصار:
«إنما يرجع في معرفة المكي والمدني إلى حفظ الصحابة والتابعين، ولم يرد عن النبي(ص) في ذلك قول؛ لأنه لم يؤمر به ولم يجعل الله علم ذلك من فرائض الأمة...».
ويقول السيد الشهيد الصدر: إن لفظ المكي والمدني ليس لفظاً شرعياً حدد النبي(ص) مفهومه... وإنما هو اصطلاح تواضع عليه علماء التفسير... 1
الاختلاف
وسبب الاختلاف في بيان ما هو مكي وما هو مدني.. حصل نتيجةً لاختلاف آرائهم في الملاك الذي يعودون إليه في تعيين المراد من المكي والمدني؛ فصارت لهم في هذا مذاهب يمكن حصرها في ثلاثة، نذكرها والملاحظات التي سجّلوها عليها:
الأول : الملاك المكاني
فقد جاء هذا الملاك ناظراً إلى مكان نزول السورة والآيات، فما نزل بمكة وضواحيها: منى وعرفات والحديبية .. ولو بعد هجرة رسول الله(ص) إلى المدينة يعدّ مكياً. وأما ما نزل في المدينة وضواحيها: بدر وأحد وسلع، وهو جبل بسوق المدينة .. فإنه يعد مدنياً.
فالملاك في هذا القسم هو مكان نزول السورة أو الآية القرآنية.
ويلاحظ على هذا التقسيم:
1 - أنه يعد ضابطاً أو ملاكاً خالياً من الدقة، لأن المكان وحدوده واتساع ضواحيه وأنحائه أمر غير واضح ولا يعرف مداه.
فقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ 2.
قيل: إنها نزلت في الطائف وقد سكنتها قبائل ثقيف فبنوا عليها حائطاً مطيفاً بها فسموه الطائف . وفيها ضريح الصحابي الجليل حبر الأمة عبد الله بن عباس الذي توفي سنة ثمان وستين للهجرة ودفن في مسجدها.. فهل يصدق لفظ ضواحي مكة على الطائف حتى تكون هذه الآية مكيةً، والطائف تقع على مرحلتين من مكة وقيل: بينهما ستون ميلاً؟
وقوله تعالى : إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرٰادُّكَ إِلىٰ مَعٰادٍ 3.
قيل: إنها نزلت في الجحفة والنبي(ص) في طريق هجرته إلى المدينة 4.
فهل الجحفة من ضواحي مكة حتى تكون الآية مكية أو من ضواحي المدينة حتى تكون الآية مدنية، والجحفة بينها وبين مكة نحو ستة وسبعين ميلاً، وبينها وبين غدير خم المكان الذي كانت فيه خطبة الوداع التي ألقاها رسول الله(ص) بعد حجة الوداع ثلاثة أميال، وكانت تسمى مهيعة ثم سميت الجحفة بعد أن أجحفتها السيول..؟
2 - وأنه لا يشمل ما نزل بغير مكة والمدينة وضواحيهما كالذي نزل بتبوك وهو:
قوله تعالى: لَوْ كٰانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قٰاصِداً لاَتَّبَعُوكَ 5.
وكالذي نزل ببيت المقدس ليلة الإسراء أو في السموات العلى، وهو قوله تعالى: وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنٰا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنٰا... 6.
وبالتالي فيعدّ هذا التقسيم غير حاصر ولا يفي بالمطلوب.
وهناك قولان آخران:
- أن ما نزل خارج البلدين مكة والمدينة بعيداً عنهما لا يطلق عليه مكي ولا مدني ضارباً لهذا مثالين وهما الآية: كَذٰلِكَ أَرْسَلْنٰاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهٰا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمٰنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتٰابِ 7، قيل: إنها نزلت بالحديبية حينما صالح النبي(ص) مشركي قريش، فقال رسول الله(ص) لعلي(ع): اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم ... فقال سهيل بن عمرو وسائر المشركين : ما نعرف الرحمن إلا صاحب مسيلمة الكذاب .. فنزلت الآية 8.