11وهكذا آية الأنفال الأولى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، نزلت في بدر عندما اختصم المسلمون في تقسيم الغنائم.. 1.
فهما آيتان لا مكيتان ولا مدنيتان على الاصطلاح المذكور.
إن ما نزل بالأسفار ليس من المكي ولا من المدني.. وهذا يدفعنا للقول: إن هناك ثلاثة أصناف: مكي ومدني والثالث لا مكي ولا مدني، وهو ما نزل في أسفاره، وقد أخرج الطبراني في الكبير من طريق الوليد بن مسلم عن عفير بن معدان عن ابن عمر عن أبي أمامة قال:
قال رسول الله(ص):
«أنزل القرآن في ثلاثة أمكنة: مكة، والمدينة، والشام».
قال الوليد: يعني بيت المقدس، فيما قال الشيخ عماد الدين بن كثير : بل تفسيره بتبوك أحسن 2.
الثاني: ملاكيّة المخاطب
فما جاء من السور والآيات القرآنية خطاباً لأهل مكة فهو مكي، وما جاء خطاباً لأهل المدينة فهو مدني، وعلى هذا الأساس حملت كل آية صدرها يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ... أو يٰا بَنِي آدَمَ ... على أهل مكة؛ لغلبة الكفر عليهم، وإن كان غير أهل مكة داخلاً فيهم. فيما حملت الآية التي صدرها يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... على أهل المدينة لغلبة الإيمان عليهم وإن كان غير أهل المدينة داخلاً فيهم..
ويبدو أن هذا الاصطلاح مأخوذ من كلام ابن مسعود : «كل شيء نزل فيه يا أيها الناس فهو في مكة. وكل شيء نزل فيه يا أيها الذين آمنوا فهو في المدينة» 3.
فقد ذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه في كتاب فضائل القرآن: حدثنا وكيع عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة : كل شيء نزل فيه يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ... فهو بمكة، وكل شيء نزل فيه يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... فهو في المدينة . وهذا مرسل قد أسند عن عبد الله بن مسعود . فيما رواه الحاكم في مستدركه آخر كتاب الهجرة عن يحيى بن معين، مسنداً عن عبد الله بن مسعود . ورواه البيهقي في أواخر دلائل النبوة، وكذا رواه البزار في مسنده وابن مردويه في تفسيره في سورة الحج عن علقمة عن أبيه.
«ولأن الغالب على أهل مكة الكفر، والغالب على أهل المدينة الإيمان» 4.
وقد نصّ على هذا القول جماعة من الأئمة، منهم أحمد بن حنبل وغيره، وبه قال كثير من المفسرين ونقله عن ابن عباس 5.
ولهم ملاحظات على هذا الرأي منها :
أ - أنهم لا يملكون ضابطاً دقيقاً لمعرفة الآيات التي تخاطب المكيين أو المدنيين.
ب - وأن التصدير ب- يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ليس أمراً مطرداً في جميع الموارد، فهناك أول آية من سورة النساء وهي مدنية، وقد صدرت ب- يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ ... 6 والآية 21 من سورة البقرة وهي مدنية: يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ... . وهناك سورة الحج التي وقع فيها الاختلاف في كونها مكية أو مدنية، وهي تتوفر على ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ...) 7. و يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا 8.
إن هناك آيات كريمة لا تتصدر ب- يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ... أو يٰا بَنِي آدَمَ ... أو يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... ، مثل قوله تعالى: يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللّٰهَ ... ، مع من ندرجها؟
وإن ردّ بعضهم على هذا بأنّ المراد من ذلك الخطاب هو الأغلبية.
فيجاب : بأن الأغلبية لا تكون ضابطاً حاصراً مطرداً.
وليس لدينا دليل على أن الخطاب المكي مقيّد بصيغة يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ ... أو يٰا بَنِي آدَمَ ... ، فإن بعض الآيات قد تخاطب الجماعة المؤمنة بذلك في أول الإسلام دفعاً لضرر قد يحاك لهم أو لحل مشكلة خاصة بهم أو من باب التكريم لهم والإجلال والاحترام.
وأيضاً ليس هناك من دليل على أن الخطاب المدني يختص بصيغة يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا... ، لأن الكفار هم مطالبون بالإيمان والعمل أصولاً وفروعاً كما في الآية 21 من سورة البقرة وهي مدنية يٰا أَيُّهَا النّٰاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...
الثالث: ملاكيّة الهجرة النبوية
وغدت الهجرة ووقتها في هذا القسم - الذي عد في نظرهم الأشهر - هي الملاك، أي أن مصطلح المكي يطلق على ما نزل من القرآن قبل الهجرة وإن كان نزوله ليس بمكة . والمدني ما كان نزوله بعد الهجرة سواء كان نزوله بالمدينة أم بمكة أم في أي مكان آخر.