9يقول أبو القاسم النيسابوري في كتاب التنبيه: «من أشرف علوم القرآن علم نزوله وجهاته، وترتيب ما نزل بمكة والمدينة وما نزل بمكة وحكمه مدني وما نزل بالمدينة وحكمه مكي، وما نزل بمكة في أهل المدينة وما نزل بالمدينة في أهل مكة، وما يشبه نزول المكي في المدني وما يشبه نزول المدني في المكي ... والآيات المدنيات في السور المكية والآيات المكيات في السور المدنية، وما حمل من مكة إلى المدينة وما حمل من المدينة إلى مكة ... وما اختلفوا فيه فقال بعضهم: مدني وبعضهم: مكي ..».
ثم يختم كلامه بعد تعداده لهذه العلوم القرآنية - وأنا اختصرت كلامه مكتفياً منه بما له علاقة بموضوعنا - بقوله:
«فهذه خمسة وعشرون وجهاً من لم يعرفها ويميز بينها لم يحلّ له أن يتكلّم في كتاب الله تعالى» 1.
إذن منزلة مكة والمدينة منزلة كبيرة في ضمير الأمة وفكرها ومشاعرها إن على مستوى التاريخ والموقع والدور الذي قاما به بعد أن قدّرته السماء لهما، وإن على مستوى القرآن الكريم وكيف فصلت سوره وآياته بينهما من حيث النزول، وما يحمله هذا الأمر من معان كبيرة ومهمة ودور علمي راح يذكر لهما في كل كتب التفسير وعلومه والشريعة والتاريخ، وفي تفسير القرآن وتأويله...
وهذه المكانة في البحوث القرآنية جعلتنا نأمل من خلال مقالتنا هذه أن نوضح ما نتمكن منها ويتيسر لنا.
فدراسة السور والآيات المكية والمدنية تحتلّ باباً واسعاً في معارف القرآن الكريم، وهو المعجزة الإلهية الخالدة؛ فمعرفة المكي والمدني من القرآن الكريم - سواء أكانت سورة أم آية - له فوائد كبيرة تتعلق بأسباب النزول وتساعد المفسر والفقيه والباحث في معرفة اتجاه الآية، إذ إن معرفة مكان نزول الآية توقفنا على الأحوال والملابسات التي احتفت بنزولها.. وما يترتب على ذلك من معرفة علوم قرآنية عديدة كأسباب النزول والناسخ والمنسوخ؛ و أن المتأخر ينسخ المتقدم، والخاص والعام والمقيد والمطلق... فالاطلاع على مكان نزول الآية يعين لا على فهم المراد بالآية ومعرفة مدلولاتها، وما يراد منها فقط، بل يساعدنا على معرفة تاريخ التشريع وتدرّجه الحكيم بوجه عام، وذلك يترتب عليه الإيمان بسموّ المنهج الإسلامي في بناء الصحابة والجماعات تربوياً واجتماعياً... وكذلك معرفة سيرة رسول الله(ص) عبر متابعة أحواله ومواقفه بمكة المكرمة، ثم أحواله في المدينة المنورة وسيرته في الدعوة إلى الله تعالى في كل منهما، ومعرفة مدى اهتمام المسلمين وعنايتهم بالقرآن الكريم فهم لم يكتفوا بحفظ النصوص القرآنية فقط، بل راحوا يتتبعون أماكن نزولها، ما كان قبل الهجرة وما كان بعدها، وما نزل منها بليلٍ وما نزل منها بنهار، ما نزل منها في صيف وما نزل منها في شتاء، وما نزل في الحضر وما نزل في السفر..، وكان حرصهم في عملهم هذا يتسم بالجهد والدقة والضبط... وما هذه العناية العظيمة بالقرآن وتقصي أماكن نزوله وأوقاته إلا الدليل الواضح على تلك الجهود المخلصة وعلى مدى الاهتمام الذي بذله المسلمون الأوائل بالقرآن وحبهم له، وهي بالتالي تعزز في النفوس الثقة بعظمة ما بذله الأصحاب والصالحون لحفظ القرآن وإيصاله إلى الأجيال المتعاقبة سالماً من التحريف والنقص..
هذا ملخص ما أورده العلماء وهم يتحدثون عن أهمية هذا العلم وفوائده وأنه أمر لا يستغنى عنه في مجالات البحث العلمي و التحقيق في الأبواب المتعددة تفسيراً وفقهاً وتاريخاً...
البداية
إن الحديث عن بداية علم المكي والمدني توجب علينا الإشارة أولاً إلى أن القران الكريم - وكما هو معروف - لم ينزله الله تعالى على نبيه الكريم(ص) دفعة واحدة أو كما في الآية جملة واحدة ( ، بل أنزله منجماً ومفرقاً لأهداف رسمتها الآية الكريمة.
تثبيت قلب رسول الله(ص)
قال تعالى: وَ قٰالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لاٰ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وٰاحِدَةً كَذٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤٰادَكَ وَ رَتَّلْنٰاهُ تَرْتِيلاً 2.
أي: أنزلناه كذلك لتثبيت فؤادك بالوحي المتتابع فتتجدّد صلتك بالله عزوجل..
تسهيل حفظه وفهمه تمهيداً للعمل به تبليغاً والتزاماً حيث يقرأ عليهم شيئاً فشيئاً كما قال تعالى:
وَ قُرْآناً فَرَقْنٰاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النّٰاسِ عَلىٰ مُكْثٍ وَ نَزَّلْنٰاهُ تَنْزِيلاً
3
.
وحين تتطلّب المقتضيات والوقائع والأسباب والمصالح...
وقد استغرق ذلك الأمر ثلاثاً وعشرين سنة تقريباً، وراح ينزل على رسول الله(ص) بأماكن متعددة؛ فبعضه كان نزوله في مكة، وبعضه الآخر بالمدينة بعد أن هاجر إليها، وأينما أقام وفي سفر كان أو في حضر، وفي حرب كان أو في سلم.. وهذا أمر طبيعي؛ فالرسول(ص) لم يكن مستقراً في مكان واحد أو في زمن واحد، والوحي يلاحقه فينزل عليه أينما حلّ وفي أي وقت كان..
ونظراً لتعدد الأماكن والأزمنة التي نزل فيها القرآن الكريم، راح الرواة والمفسّرون يحددون أماكن الآيات والسور وأزمنة نزولها..
ثم إن بداية هذا العلم لا تتعدّى كونها أقوالاً تناقلتها ألسنة الصحابة والتابعين، ولم يرد فيه بيان عن النبي(ص)، وقد يكون السبب أن المسلمين في العصر الأول في عهد رسول الله(ص) لم يكونوا في حاجة إلى هذا البيان، وهم مكتفون بمعرفة الآيات القرآنية ومكان نزولها وزمانها وأسباب نزولها، وكما