29بالرخام البارد الذي يتمّ تنظيفه باستمرار، عندما سعىٰ جدي في العشرينات من القرن الماضي كان يتقافز حافياً فوق الحصى الجارح، فأي لظىٰ سارت عليه هذه السيّدة الوحيدة وابنها يبكي من فرط العطش؟ ! لقد ظلّت تواصل السعي اللاهث علىٰ مدىٰ ستة أشواط، وعندما عادت من الشوط السابع وجدت المياه تتدفّق من تحت كعب وليدها، أهتف مع الجميع بالتكبيرات وكلمات التوحيد، وأهرول في مدى الضوء الأخضر ونكمل السعي مشياً حتىٰ جبل المروة، هو أيضاً لم تعد تظهر منه سوىٰ قمة ضئيلة، نمرّ بأبواب مكّة، الأسماء هنا تواريخ ووقائع، دورة أُخرىٰ من دورات العطش والري.
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
بيت قديم من الشعر قاله أحد سادة جرهم وهو يودع مكّة، الأبواب المتتابعة علىٰ طريق السعي تفسّر معنىٰ هذا البيت المليء بالشجن.
بانتهاء السعي [ وعملية التقصير ] تنتهي شعائر العمرة ونصبح علىٰ أبواب الحجّ، إنّ النبي صلى الله عليه و آله بعد أن انتهىٰ من السعي انتقل إلى الأبطح بشرقي مكّة وأقام فيها حتىٰ يوم النزول بمنىٰ، وطوال هذه المدّة لم يذهب إلى الكعبة أو يقربها، كأنّه كان يرىٰ عبر أستار الزمن هذه الحشود التي تتدافع إلى البيت المقدّس في كلّ حين ووقت، ولم يرد أن يكرّر الزيارة، كان يسعىٰ نحو اليسر وإيثار السلامة لأمّته من بعده، ولكن من الذي يستطيع الابتعاد عن الحرم وهو علىٰ بُعد خطوات منه؟ !
ثم يأتي يوم الحشد المهيب، يوم التروية أو الخروج إلىٰ منى استعداداً ليوم عرفة، ومنذ الصباح المبكر وقد انتابت مكّة نوع من الحمىٰ، امتلأت الطرق بالحجيج وقد أحرموا جميعاً في الملاحف البيضاء، كأنّ هذا يوم القيامة وقد بعثنا نحن جميعاً وفق معجزة ما، امتلأت الطرق بأرتال السيارات، وامتلأت السيارات