28تضمّ كلّ هذا الخليط البشري، وبقي هذا البناء العتيق قائماً، ينظمهم في تلك الدوائر التي لا بداية ولا نهاية لها، يصيحون كلّما وقفوا في مواجهة الحجر الأسود: «بسم اللّٰه واللّٰه أكبر» .
في هذا المكان لا محلّ للضغينة أو الشرّ، فأنت لا تملك إلّاأن تدعو بكلّ الكلمات الطيبة، وأن تسعىٰ لطلب المغفرة وليس لتصفية الحسابات، يكفي أن تترك جسدك وسط الزحام بينما تطلق العنان لآفاق الروح، والدعاء والتضرّع هما الوسيلة لذلك، ثم نختتم كلّ ذلك بركعتين من الصلاة.
بعد الطواف يأتي السعي، وقبل السعي أحسّ بالعطش، في أمس الحاجة إلىٰ ماء زمزم، كان النبي - صلّى اللّٰه عليه وآله وسلم - قد شرب منه بعد أن أكمل طوافه وقال لأصحابه: «إنّها مباركة، إنّها طعام طعم، وشفاء سقم» ، كان ماؤها عذباً وشافياً، قادراً علىٰ إرواء كلّ هذه الملايين من الحجيج علىٰ مدىٰ مئات السنين دون أن ينضب، هل هناك تفسير لكلّ هذه المعجزات التي تحدث في هذا المكان؟ ! أذكر أن المهندس عبدالعزيز المصري، وهو واحد من أشهر مهندسي الري في سوريا، قد حاول أن يضع تفسيراً علمياً لديمومة هذا البئر. قال لي: إنّها تقع في مركز الأرض تقريباً، لذا فإن عروق المياه في بواطن الأرض تتّجه إليها، وهذا الأمر هو أحد خصائص جاذبية المركز في كرة لا تكفّ عن الدوران.
يبدأ الانحدار نحو المزدلفة، الطرق كلّها تأخذ اتجاهاً واحداً، السيارات تزحف، وآلاف البشر بجانبها يسعون علىٰ أقدامهم، موكب ممتدّ في سكون الظلمة تحت الجبال وفوق الحصىٰ، الكلّ صامت تماماً ووصية الرّسول صلى الله عليه و آله تتردّد في كلّ الآذان:
«السكينة، السكينة»
أمرّ علىٰ طول المسعىٰ بين جبلين، عبر الوادي الذي سعت فوقه السيدة هاجر، المكان الآن مكسوّ