76بالإخلاص. وإن كان يستلزم ذلك التكلّف والمرارة، فإنّه من أراد أن يُعالج مرض بدنه عليه أن يتحمّل مرارة الدواء وأن يصبر عن المُشتهيات، وكذلك الروح فلابدّ من احتمال مرارة المجاهدة وشدّة الصبر، فإنّه سيّد الأخلاق، فيصبر على فعل الطاعات والعبادات وترك المعاصي والآثام، ليداوي بالصبر أمراض القلوب، وإنَّ علاجها أولى من علاج الأبدان، فإنَّ مرض البدن يخلص الإنسان منه بالموت، ولكن مرض الروح - والعياذ باللّٰه - يدوم بعد الموت أبداً، فالحريّ بمن يخاف على نفسه وقلبه وروحه أن يباشر المعالجة قبل الموت، فإنّه سيندم يوم لا ينفعه الندم.
ثمّ أصل تهذيب النفس وتزكيتها أن يقف الإنسان على حقيقة نفسه ويرى عيوبها ومهلكاتها، فمن كملت بصيرته وتمّت حذاقته، لم تخف عليه عيوبه. ومن عرفالأمراض والعيوب يسهلعليه التداوي والتخلّص منها. وأكثر الناس جهلوا عيوب أنفسهم، ويرون القذى في أعين الآخرين، ولا يرون الجزع في عيونهم.
فلابدّ من الاعتدال والحكمة بلا افراط ولا تفريط، بل خير الاُمور أوسطها، فإنّ الاعتدال في الأخلاق هو صحّة القلب والنفس والروح، والميل والانحراف عن حدّ الاعتدال فهو المرض والسقم الذي يخاف منه، فعلاج النفس بمحو الرذائل والأخلاق الذميمة عن النفس، وكسبها الفضائل والأخلاق الحميدة، ثمّ بعد تخلية القلب من الأهواء والأمراض النفسيّة وتحليته بالأخلاق الفاضلة، ثمّ يسعى من أجل تجليتها وصيقلتها حتى تكون كالمرآة تنطبع فيها أسرار اللّٰه وكونه، وإنّ اُمور الناس ترجع إلى ربهم كما رجوع الإنسان إليه، فهو الكمال المطلق ومطلق الكمال المستجمع لجميع الصفات الكمالية والجمالية والجلالية بلا نهاية ولا بداية، فهو الأوّل وهو الآخر.
ثمّ الغالب على أصل المزاج البدني هو الاعتدال، وإنّما تعتريه العلل المغيرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال، وكذلك الروح فكلّ مولود يولد على الفطرة المعتدلة الصحيحة، وإنّما أبواه يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه، وإنّما المحيط