44وهم ألدّ أعدائه المؤلّبين عليه فعفا عنهم ولم يتعقّبهم بسوء، وظفر بعمرو بن العاص وهو أخطر عليه من جيش ذي عدّة فأعرض عنه وتركه ينجو بحياته حين كشف عن سوأته اتقاءً لضربته. . وحال جند معاوية بينه وبين الماء في معركة صفّين وهم يقولون له: ولا قطرة حتى تموت عطشاً. . فلمّا حمل عليهم وأجلاهم عنه سوَّغ لهم أن يشربوا منه كما يشرب جنده، وزار السيّدة عائشة بعد وقعة الجمل فصاحت به صفية أم طلحة الطلحات: أيتم اللّٰه منك أولادك كما أيتمت أولادي. فلم يرد عليها شيئاً، ثمّ خرج فأعادت عليه ما استقبلته به فسكت ولم يرد عليها. قال رجل أغضبه مقالها: يا أمير المؤمنين! أتسكت عن هذه المرأة وهي تقول ما تسمع؟ فانتهره وهو يقول: ويحك؟ إنّا أُمرنا أن نكفّ عن النساء وهن مشركات أفلا نكفّ عنهنّ وهن مسلمات؟ وإنّه لفي طريقه إذ أخبره بعض أتباعه عن رجلين ينالان من عائشة فأمر بجلدهما مائة جلدة. ثمّ ودّع السيّدة عائشة أكرم وداع وسار في ركابها أميالاً وأرسل معها من يخدمها ويحفّ بها. قيل: إنّه أرسل معها عشرين امرأة من نساء عبد القيس عمّمهن بالعمائم وقلّدهن السيوف. . فلمّا كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به وتأفّفت وقالت: هتك ستري برجاله وجنده الذين وكّلهم بي. . فلمّا وصلت إلى المدينة ألقى النساء عمائمهنّ وقلن لها: إنّما نحن نسوة.
[ وهنا تقول عائشة: ما ازددت واللّٰه يا ابن أبي طالب إلّاكرماً. ]
وكانت هذه المروءة سنّته مع خصومه، من استحق منهم الكرامة ومن لم يستحقها، ومن كان في حرمة عائشة رضي اللّٰه عنها ومن لم تكن له قط حرمة، وهي أندر مروءة عرفت من مقاتل في وغر القتال. .
وتعدلها في النبل والندرة سلامة صدره من الضغن على أعدى الناس له وأضرّهم به وأشهرهم بالضغن عليه. فنهى أهله وصحبه أن يمثِّلوا بقاتله وأن يقتلوا أحداً غيره، ورثى طلحة الذي خلع بيعته وجمع الجموع لحربه رثاءً محزون يفيض كلامه بالألم والمودّة، وأوصى أتباعه ألا يقاتلوا الخوارج الذين شقوا