212الإسلام في هذا الموقف، فإنها تسلك مع خصومها سلوكاً متشابهاً، بتأكيدها الحرية الإنسانيّة، وجعلها قاعدة وجودها، وعدم سماحها بظهور النظم السياسية الديكتاتورية والفاشستية في العالم إلى حدّ استخدام القوّة العسكرية ضدّها لاسقاطها، فتكون قد عملت بنفس النهج الإسلامي الذي تعدّه بائداً ينتسب إلى القرون الوسطى.
فإذا كان ما تقوله حقّاً فهي أولى به ذمّاً؛ لأنّ الإسلام لم يجعل الحرية قاعدة لوجوده حتىٰ يناقض هذا السلوك مع تلك القاعدة، وإنما جعل الحرية جزءاً من حضارته، والتوحيد قاعدة لها، ومن الطبيعي أن يقدم مصلحة القاعدة علىٰ مصلحة الجزء كلما تعارضتا، فيلجأ إلى القوة كلما تطلبت مصلحة التوحيد ذلك. فإنّه لو لم يقم بذلك ينتهي الأمر إلى أن تخسر البشرية المصلحة المرجوّة من الإسلام، قد تقول: لماذا لا يترك الإسلام الشرك ليسقط وحده وبالوسائل السلمية؟
ويبتني هذا السؤال علىٰ افتراض أن تقدم الزمن وتطور المعرفة كفيلان بإزالة الشرك، ولكن الواقع ينفي هذا الافتراض. فإنّ المعرفة لا تؤثر في كثير من الأحيان بالأديان والمذاهب التي تستقر غالباً في كوامن النفس، وتتغلغل فيها عبر نقاط لا سبيل إلى المعرفة إليها فتبقى هناك يتوارثها الأجيال، فتتحوّل بعد فترة من الزمن والأحداث المؤثرة نفسياً عليها إلى عقائد قومية يشحذها التعصب القومي تجاه القوميات ذات الأديان المختلفة. ألا ترى أنّ عبادة الأوثان والحيوانات ظاهرة لا زالت قائمة في أفريقيا وشبه الجزيرة الهندية إلى الآن؟ وليس من شك أنّ بقاء هذه الظاهرة لمما يُعاب عليه الإنسان في كل زمان ومكان فضلاً عن زماننا. وهي مما يزري بالإنسانيّة المعاصرة أكثر من إزراء الديكتاتورية - التي تعدّ في نظر الغرب فاحشة الفواحش في دنيا الإنسان - بها.