65وعذراً يا أمنا! إذا كنّا - نحن أبناؤك - لم نحفظ هذه المفاتيح التي سلّمتيها إلىٰ إسماعيل من بعدك، وتوارثها أبناء إسماعيل من إسماعيل، وتوارثناها - نحن - من ابنك محمد المصطفى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم فضيعناها فيما ضيعنا من تراث الأنبياء ومواريثهم.
لقد تعلمنا من أبينا إبراهيم كيف نوحّد اللّٰه، وتعلمنا من أمّنا هاجر كيف نسأل اللّٰه، وفي متاهات الهوى والطاغوت ضيعنا هذا وذاك.
فأعنّا اللهمّ! على تحصيل ما ضيعناه من تراث أبينا وأمنا (إبراهيم وهاجر) عليهما السلام واجعلنا من أسرتهم، ولا تطردنا ربنا! من هذا البيت من آل إبراهيم وآل عمران.
« إن اللّٰهَ اصطفى آدم ونوحاً وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين ذرية بعضها من بعض واللّٰهُ سميعٌ عليم » 1.
« ربّنا واجعلنا مسلمين لكَ ومن ذريتنا أُمّةً مسلمة لكَ وأرِنا مناسكنا وتُب علينا إنك أنت التوّاب الرحيم» 2.
لقد أخذت أمُّنا (أمّ إسماعيل) - يومذاك في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء هجيز ذلك الوادي - بأسباب الخير كلّها. . . وذلك هو السعي والدعاء والفقر.
لقد كانت أُمّنا تسعى إلى الماء، وتشرف على الوادي تارة من على الصفا وأُخرى من على المروة باحثة عن الماء ، واللّٰه - تعالى - يحبّ من عباده الحركة والسعي والعمل، وجعل ذلك من أهم شروط الرزق. ولكنها في سعيها كانت منقطعة إلى اللّٰه، وتدعوه - تعالى -، وتسأله في حالة من الانقطاع، يقلّ نظيرها في تاريخ الإنسان، فلا السعي والتحرك ، كانا يحجبانها، ويقطعانها عنه - تعالى -، ولا الانقطاع إلى اللّٰه كان يعطل فيها حالة الحركة، والسعي إلى الماء بأقصىٰ ما تستطيعه امرأة في ذلك الوادي، وفي ذلك الهجير. . . في أشواط سبعة من الصفا إلى المروة ومن المروة إلى الصفا.
وإننا اليوم في شعائر حجّنا، نسعى هذه الأشواط بين هذين الجبلين، من غير معاناة، ولا عذاب ولا همّ، ولا قلق، فنكدح ونتعب ويرهقنا هذا السعي.
وقد قامت أمُّنا هاجر بهذا السعي كلّه في ذلك الوادي القفر، وفي رمضاء ذلك الهجير، وهي ظمأى قد استنفذ العطش كلّ حولها وقوتها، ورضيعها الصغير يكاد يلفظ آخر أنفاسه. . . ولكنها مع ذلك قامت بهذا السعي إلى الماء بقوّة وهمّة وعزم وإرادة.
ولم يمنعها هذا السعي - ولو للحظة واحدة - عن الانقطاع إلى اللّٰه، ولم يحجبها ولو للحظة واحدة عنه تعالى. لقد كانت في هذا السعي المرير كلّه على اتصال باللّٰه، وانقطاع إليه لا يشغلها هذا عن ذاك ولا يحجبها ذاك عن هذا، فقرنت السعي إلى الماء بالانقطاع إلى اللّٰه، وقرنت الانقطاع إلى اللّٰه بالسعي إلى الماء، ومَن منّا يقدر على ذلك؟
والملائكة يومئذ ينظرون إليها، ويتعجبون منها، كيف استطاعت أن تنقطع إلى اللّٰه هذا الانقطاع؟ وكيف تمكنت أن تسعى إلى الماء وهي مثقلة بالمتاعب والمحن هذا السعي؟ وكيف استطاعت أن تجمع بين السعي والانقطاع إلى اللّٰه