57ولكن علينا أن نشير هنا: أن هناك نوعين من الفقر؛ أحدهما يستنزل رحمة اللّٰه، والآخر يحجب صاحبه عن رحمة اللّٰه. أمّا الذي يستنزل رحمة اللّٰه فهو «الفقر الواعي» الذي يشعر صاحبه بحاجته وفقره الى اللّٰه تعالى، ويربطه بمسبب الأسباب مباشرة عبر الأسباب، دون أن يكون معنى ذلك اسقاط الأسباب عن الحساب.
والفقر المضلّل هو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بفقره وحاجته الى مسبب الأسباب.
وليس معنى وعي الحاجة والفقر إلى اللّٰه - تعالى - الغاء الأسباب، والإعراض والانصراف عنها، فهذا ما لا يصح، ولا يجوز، ولا يقول به أحد، حتّى الأشاعرة لا يذهبون هذا المذهب المتطرف من الأسباب.
ومع تثبيت هذه الحقيقة نقول: إنّ الفقر الواعي هو الفقر الذي يشعر صاحبه بفقره إلى اللّٰه، ويثبّت ويركّز الإحساس بالفقر إلى اللّٰه في نفسه، ولا تعيقه الأسباب عن مسبّب الأسباب.
أما الفقر المضلّل فهو الفقر الذي يحبس صاحبه عند الأسباب، وتحجبه الأسباب عن الإحساس بالحاجة والفقر الى اللّٰه تعالى، مبدإ الأسباب، ومسبّب الأسباب.
والفقر الأوّل هو المقصود من الرواية النبويّة الشريفة (الفقر مخزي) والفقر الثاني هو الذي (كاد أن يكون كفراً) .
والفقر الأوّل هو الذي يستنزل رحمة اللّٰه، والثاني يحجب صاحبه عن رحمة اللّٰه.
وهذا الفقر هو الذي نجده في كلمات أبي الأنبياءِ إبراهيم عليه السلام، كما يتلو علينا القرآن نبأه: «واتلُ عليهم نبأَ ابراهيم. . . الذي خَلَقني فهو يَهدين والذي هو يُطعمني ويَسقين وإذا مَرِضتُ فهو يَشفين والذي يُميتني ثم يُحيين والذي أَطمعُ أن يغفرَ لي خَطيئتي يومَ الدين» 1.
فلا يريد إبراهيم عليه السلام في هذا الخطاب أن يلغي الأسباب الطبيعية في الإطعام والسقي والشفاء والموت والحياة من الحساب، وقد كان عليه السلام يتعامل مع كل ذلك إلّاأن هذه الأسباب لن تحجبه عن اللّٰه - تعالى - مسبّب الأسباب ومبدإ الأسباب، وهذا هو الفرق بين الرؤية التوحيدية إلى الأسباب وبين الرؤية الأخرى المشوبة بالشرك.
المنزل الثاني: الدعاء والسؤال:
يستنزل الدعاء والسؤال من رحمة اللّٰه ما لا يستنزله الفقر وذلك أنّ الدعاء فقر وطلب، وكل منهما عامل مستقل في استنزال رحمة اللّٰه - تعالى - فإنّ الطلب والسؤال يستنزل رحمة اللّٰه، كما أنّ الفقر يستنزل رحمة اللّٰه، والدعاء:
«فقر وطلب» ولذلك فهو يستنزل من رحمة اللّٰه ما لا يستنزله الفقر وحده.
وكلما يكون صاحب الدعاء أكثر اضطراراً وفقراً يكون دعاؤه أقرب إلى الاستجابة، فإنّ الفقر يركّز الطلب، والطلب يعمق حالة الفقر ويدخله إلى دائرة الوعي.
ولكل (دعوة) (اجابة) .
يقول تعالى: «. . . ادعوني استجب لكم، إنّ الذين يستكبرونَ عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين» 2.
وهذا قانون عام لا يتخلف، والقرآن الكريم يقرّر هذه الحقيقة بكل وضوح (ادعوني أستجب لكم) .