158المزارع المحيطة بمكة، وأنشئت الجنات في بعض ضواحيها، وحفرت الآبار، واتخذت السدود من مياه الأمطار، ووجدت الأقطاعات الفخمة فيأراضي الطائف، وأكثرها ملك للقريشيين، وانتقل إلى هذه الأقطاعات كثير من قريش، يسهرون على غلاتها، وقد ظل كثير من بطونهم يعيش إلى اليوم في بعض ضواحي الطائف.
وماجت مكة على أثر هذه الحركة بسكانها من القبائل النازحة إليها، والموالي المجلوبين من الفرس والروم، وبدأت تستقبل في عهد عثمان كثيراً من الذين نزحوا عنها في عهد الشيخين؛ للالتحاق بالجيوش الفاتحة. . . عاد إليها البعض بما كسبه من غنائم، كما عاد البعض الآخر بما في صدورهم من العلوم، فحفلت مكة بحلقات المعلمين، كما حفلت أسواقها بمتاجر أهل الثراء، ولم تشترك مكة في فتنة عثمان، التي اشتركت فيها أهم أمصار الإسلام. وإذا كان بعض المهاجرين من أهلها في المدينة اتصلوا بالفتنة من بعض أطرافها. فذلك بحكم بقائهم فيها واشتغالهم بالسياسة العليا في حكومتها. ولعلنا لسنا بحاجة الى استقصاء الأسباب التي عصمت مكة من مزالق الفتنة، وعندما نادت عائشة بثورتها لم يتبعها من مكة إلا الأقلون، واكثرهم من أشياع بني أمية واتباعهم، وبعض المشتغلين بالسياسة العليا، وهؤلاء لا يكونون الرأي العام في البلاد 1.
وكما تعاونت مكة مع ولاة عثمان مدة خلافته، وساعدت في تنشيط الحركة العمرانية لعهده رضيت بولاة علي عليه السلام وأخلصت الود لهم. ولما أراد قثم بن العباس أن يحارب الترف الذي بدرت بوادره كنتيجة لتضخم الثروات التي أشرنا إليها، كادت أن تسلس له القياد وتستجيب إلى دعوته.
ثالثاً: الناحية العمرانية في العهد الأموي:
ينقل القطبي في الأعلام عن الفاكهي أن من آثار النبيّ مسجداً بأعلى مكة عند بئر جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل، ثم يقول: وكان الناس لا يتجاوزون في منازلهم - في قديم الزمان - هذا البئر، وما فوق ذلك خال من الناس، وفي ذلك يقول عمر بن أبي ربيعة: نزلت بمكةَ من قبائل نوفل
ونستطيع أن نفهم من هذا أن قديم الزمان الذي يشير إليه الفاكهي، هو عهد بني أمية، وفي شعر ابن أبي ربيعة وهو من معاصري الأمويين ما يؤيد ذلك، فقد نزل خلف البئر أبعد منزل. إذاً فقد كان العمران في هذا العهد لا يتجاوز البئر والمسجد المذكورين، وقد أدركت العامة وهم يسمون المسجد الموجود الآن أمام الحلقة مسجد الراية، وكنت لا أستبعد أن يكون البئر المذكور هو بئر الكمالية الموجود اليوم على بعض أمتار منه، ولكني علمت أن الأستاذ عبد القدوس الأنصاري حقّق مكان البئر والمسجد، وانتهى في ذلك إلى أن مسجد الراية هو المسجد الموجود في الجودرية، وتقع عمارة شركة الكهرباء الآن خلفه، وبجواره مباشرة بئر جبير بن مطعم. وأجدني اليوم أميل إلى متابعة رأيه لأسباب أذكرها، وقد يكون ذكر غيرها:
1 - بعد أن ذكر القطبي في كتابه الأعلام أن العمران كان لا يتجاوز البئر، قال: أما في زماننا « وزمانه أوائل العهد العثماني» فقد تجاوز العمران كثيراً صوب المعلاة، فإشارته إلى تجاوز العمران كثيراً صوب المعلاة فيه ما يدل