159على أن مسجد الراية كان بعيداً عن المعلاة، فإذا أفترضنا أن مسجد الراية الموجود أمام الحلقة كان المدى بينه وبين المعلاة مدًى يسير، وأن أقل العمران يصله بالمعلاة مباشرة.
أما إذا جعلنا مسجد الراية في «الجودرية» 1فإن جملة العلامة القطبي تستقيم تماماً؛ لأن المدى بينه وبين المعلاة يحتمل قول أن العمران تجاوز كثيراً صوب المعلاة.
2 - يذكر مؤرخو مكّة أن ابن الزبير عندما فلق الطريق الذي نسميه اليوم «الفلق» ، وكان غرضه أن تتصل بيوته في نواحي سويقة ببساتينه من ذلك الطريق؛ فتعين لدينا أن بساتينه لا تبعد عن الفلق كثيراً، وأن المتوقع أن يكون موقعها في الحلقة، أو بالقرب من ذلك؛ لأن الحلقة كانت موقع بساتين ولا يزال آثار ذلك بجانبها إلى اليوم، فإذا صحّ أن بساتينه في الحلقة، أو ما يقرب منها فإننا نستبعد أن يكون عمران مكة ينتهي إلى ما يسامت البساتين؛ لأن المعروف في تخطيط المدن العربية في العادة أن تقع بساتينها في ضواحيها، ولما كان عهد ابن الزبير متصلاً بعهد الأمويين، وكان المظنون أن بساتينه كانت تقع في ضاحية مكة، وأن العمران ينتهي بعيداً عن بساتينه بنحو مائة متر، وهو ما يتفق مع موقع المسجد الموجود خلف عمارة شركة الكهرباء اليوم، لهذا فالأوفق أن يكون مسجد الراية وبئر مطعم هما الموجودان اليوم أمام شركة الكهرباء في الجودرية، حيث كان ينتهي عمران مكة في عهد الأمويين.
ولا نعتقد أن العمران تجاوز من الجهة الأخرى الشبيكة، لأن حدود حارة الباب لم تعمر إلا بعد هذا العهد، ولم يكن لمكّة في هذا العهد سور؛ لأن المفهوم من سياق ما ذكره التقي الفاسي: أن العمران في هذا العهد تجاوز السور الذي عرفناه في العهد الجاهلي بالقرب من المدعاة، فهدم السور وظلت مكة على ذلك إلى أن سورت في المعلاة في عهد قتادة كما سيأتي.
على أننا لا نعني بتحديد العمران - في مكّة في هذا العهد - التحديد المتبادر إلى الذهن؛ لأن المعروف أن كثيراً من السكان كانوا يسكنون إلى مسافات تتجاوز هذه الحدود؛ فشعب عامر كان مسكوناً في العهد الجاهلي، وكذلك كانت الحجون والمعابدة، وإذن فالمراد بالتحديد هو العمران المتصل، وهو لا يمنع وجود الساكن في الضواحي القريبة أو البعيدة.
رابعاً: النواحي العمرانية في العهد العباسي:
لا يستنتج الباحث مما كتب عن مكة، أن عمرانها اتسع في هذا العهد عما عرفناه في عهد الأمويين، أو أن مساحة المأهول فيها توسعت عما كانت، بل يجد أن الأمر على عكسه، وأن السكان قل تعدادهم جداً، فقد تفرق أبناء مكة في الآفاق، واستوطنوا الأراضي الخصبة، واتخذوا لهم أملاكاً في مصر والمغرب والشام والعراق حتى لم يبق في مكة من أهلها إلا أقل من القليل، مع من جاورهم من مسلمي الآفاق؛ للتشرف بالجوار، وكان من عادة حكام مكّة أن ينادي مناديهم بعد أداء الحجّ «يا غريب بلادك» تقليداً لابن الخطاب، لئلا يستأثر المجاورون بثروات البلاد.
عنى الرشيد بالعيون التي طمرت بعد عهد معاوية فأحياها، وصرف مياهها في عين واحدة، يقال لها