18يمكن انتقالها الي الآخرين. أما إلانة الحديد فهي ليست مسألة مهنية تدخل في اطار العلم والتعلّم، وَ بالتالي لا يمكن ان تنتقل الي الآخرين، ولذلك لم يعبّر عنها ب- ((وعلمناه إلانة الحديد)) .
قد يقال: إنَّ من الممكن إلانة الحديد عبر تذويبه في صهاريج الفولاذ، الاّ انَّ الآية لا تتحدث عن هذا النمط من الإلانة والتذويب الذي يقع في مجال العلم، وانما تتحدث عن فعل اعجازي، حيث كانَ داود (عليه السلام) يمسك الحديد الصلب بين يديه وَيشكّله كيفما شاء، تماماً كما يمسك الانسان العادي الشمع بين يديه ويعيد تشكيله بما يشاء.
ومقام ابراهيم (عليه السلام) هو من هذا القبيل، مع فارق بين الاثنين حيث لانَ الحديد لداود، والصخر لابراهيم، والتقدير ((والنا له الحجر)) .
لقد اضحي الصخر ليناً ناعماً بين قدمي الخليل، حتي ترك اثرهما عليه، مُضافاً لذلك انَّ الصخر أضحي بمثابة ((المحفظة)) لقدم الخليل (عليه السلام) كما الحديد بالنسبة لداود (عليه السلام) .
والآن عودة الي بدء. فقد انطلقنا من السؤال التالي: كيف يكون مقام ابراهيم لوحده - بصيغة المفرد - دالة علي آيات بينات وهي بصيغة الجمع؟
ذكرنا حتي الآن احد احتمالين - حيث لا حظنا انه هناك عدد من الآيات المعجزة في المقام يشكل مجموعها: آيات بينات - والاحتمال الاول هذا ذهب اليه الزمخشري.
أما الاحتمال الثاني ففحواه انَّ آيات بينات تنطوي علي عددٍ كبير - من الآيات والمعجزات - احداها مقام ابراهيم، وثانيتها: وَ مَن دخله كانَ آمناً .
الأمنان التكويني والتشريعي لبيت الله الحرام:
انَّ للكعبة امناً تكويناً، اذ دأب الكثير من الطغاة علي التعرض للبيت في محاولة للقضاء عليه، ولا لحاق الاذي بأهل مكة، الاّ انَّ الله سبحانه حفظ البيت وجعله في أمان. يقول تعالي: الذي اطعمهم من جوع وآمنهم من خَوف 36. ويوم لم يكن ثمة اثر للتشريع والاحكام، كان اهل مكه وهم مشركون يتمتعون بأمن خاص. ثم هناك الامن التشريعي، ومؤدّاه: من دخله كان آمناً بل انَّ الطبري نقل في تفسيره للآية (97) من سورة آل عمران، انَّ المجرم الجاني كان في الجاهلية اذا لجأ الي الكعبة لا يتعرض له احد بسوء.
وهنا لا نحتاج للتكلّف فنحضر آيات بينات في خصوص ((مقام ابراهيم)) أو خصوص ما للبيت من أمن إلهي مجعول. فبئر ((زمزم)) و ((حجر اسماعيل)) و ((الحجر الاسود)) هي ايضاً آيات بينات.
بل انَّ البيت بنفسه هو معجزة وآية بينة، بدليل ما حلَّ باصحاب الفيل الذين همّوا بهدم الكعبة، فواجههم (سبحانه) بجيووش الهيّة، كما تحكي لنا ذلك سورة الفيل: الم تر كيف فعل ربك باصحاب الفيل. . . ؛ فجعلهم كعصفٍ مأكول. اذاً، ليس ثمة ما يدعونا للقول: انَّ ((مقام ابراهيم)) هو وحده بيان لآيات بينات، وانما خُص بالذكر من باب ذكر الخاص بعد العام.
يقول تعالي في سورة البقرة: واذ جعلنا البيت مثابة للناس وامناً واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّي وعهدنا إلي إبراهيم واسماعيل ان طهّرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود 37. لقد ذُكر في بحث مفصَّل انَّ ((البيت)) مرجع للناس كافة وَملاذ لهم، وهو محاط بأمن تكويني وامن تشريعي. فاذا أراد احد التعرّض للبيت بهدف الهدم والافناء فانَّ الله (سبحانه) يكون بالمرصاد.