19أما الامن التشريعي فمن مصاديقه، انَّ الانسان اذا كان عليه حد ولجأ الي الحرم، أمن اقامة الحدود عليه طالما مكث بالحرم؛ الاّ أن لا يراعي حرمة البيت، فحينئذٍ يشمله القصاص. يقول تعالي: والحرمات قصاص 38. بمعني انَّ الانسان اذا تعرض لحرمة الكعبة والمسجد الحرام وعموم الحرم والشهر الحرام، فسينزع عن نفسه الامان، ويكون عرضة للقصاص والحد.
فاذا اجترح الانسان جناية في الحرم اقيم عليه الحد حتي وهو داخله. اما اذا ارتكب الجناية خارج الحرم ولجأ اليه أمن الحد وامهل حتي يخرج منه. ولكن يضغط عليه حتي يلجأ إلي خارجه؛ فلا يبتاع منه ولا يُطعم ولا يُحسن اليه.
ثمة غير الآية التي نتحدَّث عنها، آية اخري تشير الي ما يتحلي به الحرم من أمن، حيث يقول - تعالي - في سورة العنكبوت: أو لم يروا انّا جعلنا حرماً آمناً ويتخطّف الناس من حولهم، أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون 39.
والسر انَّ ما من احد يتعرض الي البيت بقصد االإفناء، ولاهله بقصد الاستئصال، الاّ وكان الله له بالمرصاد، فيذيقه العقاب بلا امهال: ومن يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذابٍ أليم 40.
ثمة رواية ينقلها المرحوم ابن بابويه في كتاب ((من لا يحضره الفقيه)) مؤدّاها: اذا كان البيت يتحلي بحرمة خاصة، واذا كان (سبحانه) قد أرسل طيراً ابابيل علي جيش ابرهة حين قصد الكعبة؛ فلماذا لم تشمل الحماية الالهيّة ابن الزبير حين تحصَّن داخل الكعبة، حيث قام الحجاج بن يوسف برمي الكعبة بالمنجنيق من علي جبل ابي قبيس - بأمر من عبدالملك - فهدّمت الكعبة وأعتقل ثم قتل؟
ذكر ((الصدوق)) في الجواب: ان حرمة الكعبة انما تكون لحرمة الدين وحفظه وصيانته. وحافظ الدين وحارسه في زمان حضور الامام المعصوم، هو الإمام نفسه، وفي زمن غيبته يضطلع بالمهمة نوابه.
ثم نقل عن الامام (الذي يبدو هو الامام السجاد عليه السلام) انَّ الزبير لم ينصر امام زمانه سيّد الشهداء الحسين (عليه السلام) حتي استشهد مظلوماً، وحينما آلت الامامة الي الامام الذي يليه (الامام السجاد عليه السلام) لم ينصره ولم يدع اليه. لذلك لم ينصره الله ولم يدفع عنه حتي وهو يلوذ بالكعبة ويلجأ الي داخل البيت، كما حصل في جيش ابرهة حيث ارسل (سبحانه) طيراً ابابيل في حين لم يحصل الشيء نفسه حين رمي الحجاج الكعبة بالمنجنيق.
لذلك انتهي الامر باعتقال الامويين لابن الزبير - وهو رجل فاسد - فقتلوه ثم اعادوا بناء الكعبة دون مشكلة تُذكر. أما بالنسبة لابرهة فالامر يختلف تماماً، اذ كان هدفه افناء الكعبة وتحويل قبلة الناس الي جهة اخري، لذلك لم يمهله سبحانه.
بمعني آخر، ان تصرّف الحجاج بن يوسف لم يشكل نقصاً للآية من يرد فيه بالحاد بظلم نذقه من عذاب أليم ولا يتعارض معها. ولا زال الامر يشكل حالة مطّردة، فلو افترضنا انَّ هذه الديار تتحوّل الي ديار ظلم، فالله (سبحانه) لا يتدخل لقمع الظالم واستئصال الظلم ان لم يكن أهل الديار علي الصراط المستقيم؛ وانما يمكن ان نفسِّر امثال هذه الوقائع علي اساس: نُولّي بعض الظالمين بعضا ً41 - أي انَّ الوقائع تتحرك علي مسار قانونٍ آخر -.
انَّ الفكرة المحورية التي ينبغي ان ننتبه اليها، هي انَّ علي المسلمين ان ينهضوا بتكليفهم، ويضطلعوا بواجباتهم، ثم ينتظروا الوعيد الالهي: من يرد فيه بالحاد بظلمٍ نذقه من عذاب اليم.
نسبة ((البيت)) الي الله والناس.
ثمة في مطلع الآية - مورد البحث - ما يؤكد الفكرة التي نبحثها، ويدل عليها، حيث يقول تعالي: انَّ اوّل بيتٍ وضع للناس. . . .
لقد نسب الله (سبحانه) البيت الي ذاته المقدّسة كما نسبه الي الناس، ولكن مع فارقين احدهما أدبي والآخر معنوي. أما الأدبي فيتجلي في نسبة البيت اليه (سبحانه) من دون ((لام)) حيث قال: أن طهّرا بيتي أما حين النسبة الي الناس فقد دخلت ((اللام)) حيث قال سبحانه: . . . . وضع للناس . والمعني المراد: أنَّ الكعبة هي بيت الله، وليست بيتاً للناس، بيد انها وضعت للناس ومن أجلهم.
أما الفارق المعنوي فهو يتجلي في انَّ اضافة البيت اليالله (سبحانه) هي التي منحته الشرف والرفعة. وذلك علي عكس الحالة الثانية، اذ اكتسب الناس الشرف والرفعة باضافتهم الي البيت.
فشرافة ((البيت)) من نسبته لله تعالي؛ وشرافة الناس من نسبتهم الي البيت.
قوله تعالي: وضع للناس الوضع هنا تشريعي، والمقصود: انَّ البيت معبد وقبلة ومطاف للناس؛ جميع الناس دون ان يكون من اختصاص فئة دون اخري. والطريف الذي يلاحظ انَّ التعبير جاء بصيغة ((وضع للناس)) لا بصيغة ((بني)) للناس.