8
السيرة اللاإنسانية لبعض الحجّاج
تصنع العقائد والأخلاق والأعمال والنيّات حقيقةَ أيّ إنسان، كذلك الحجّ - كما سائر العبادات - يبني الإنسان، بل يتناغم سرّ الحجّ مع سريرة الإنسان، فيبنى على أساس ذلك، وإذا لم يوفّق شخص لبلوغ السرّ، فإنّ صورته تكون صورة الإنسان، إلاّ أنّ حقيقته وسيرته ستكونان سيرة الحيوان: «فالصورة صورة إنسان والقلب قلب حيوان» (40) .
يقول أبو بصير للإمام الباقر (ع) : «ما أكثر الحجيج وأعظم الضجيج! فقال (ع) : بل ما أكثر الضجيج وأقلّ الحجيج، أتحبّ أن تعلم صدق ما أقوله، وتراه عياناً؟ فمسح يده على عينيه، ودعا بدعوات فعاد بصيراً، فقال: انظر يا أبا بصير إلى الحجيج. قال: فنظرت فإذا أكثر الناس قردةً وخنازير، والمؤمن بينهم مثل الكوكب اللاّمع في الظلماء. . .» (41) .
وفي حديث آخر: قال عليّ بن الحسين (عليهما السلام) - وهو واقف بعرفات - للزهري: «كم تقدِّر من الناس هاهنا؟» قال: أُقدّر أربعة ألف ألف و [ظ أربعمائة ألف أو] خمسمائة ألف؛ كلّهم حجّاج قصدوا الله بأموالهم ويدعونه بضجيج أصواتهم. فقال له: «يا زهريّ! ما أكثر الضجيح وأقلّ الحجيج» ، فقال الزهري: كلّهم حجّاج أفهم قليل؟ فقال: «يا زهريّ! أدن إليَّ وجهك» . فأدناه إليه، فمسح بيده وجهه.
ثمّ قال: «اُنظر» . فنظر إلى الناس. فقال الزهري: فرأيت أُولئك الخلق كلّهم قردة لا أرى فيهم إنساناً إلاّ في كلّ عشرة ألف واحد من الناس. ثمّ قال لي: «اُدنُ يا زهريّ» . فدنوت منه فمسح بيده وجهي، ثمّ قال: «اُنظر» . فنظرت إلى الناس. قال الزهريّ: فرأيت اُولئك الخلق كلّهم خنازير.
ثمّ قال لي: «اُدنُ إليَّ وجهك» . فأدنيت منه فمسح بيده وجهي فإذا هم كلّهم ديبة (ذئبة) إلاّ تلك الخصائص من الناس النفر اليسير.
فقلت: بأبي واُمّي أنت يا ابن رسول الله، قد أدهشتني آياتك وحيّرتني عجائبك. قال: «يا زهريّ! ما الحجيج من هؤلاء إلاّ النفر اليسير الذين رأيتهم بين هذا الخلق الجمّ الغفير» .
ثمّ قال لي: «امسح يدك على وجهك» . ففعلت فعاد اُولئك الخلق في عيني اُناساً كما كانوا أوّلاً.
ثمّ قال لي: «مَن حجّ ووالى موالينا وهَجَر معادينا ووطّن نفسه على طاعتنا ثمّ حضر هذا الموقف مسلّماً إلى الحجر الأسود ما قلّده الله من أمانتنا (أماناتنا) ووفيّاً بما ألزمه من عهودنا، فذلك هو الحاج والباقون هم من قد رأيتهم.
يا زهريّ! حدّثني أبي عن جدّي رسول الله (ص) أنّه قال: ليس الحاج المنافقون المعاندون لمحمّد وعليّ محبّيهما الموالون لشانئيهما، وإنّما الحاجّ المؤمن المخلصون الموالون لمحمّد وعليّ ومحبّيهما المعادون لشانئيهما. إنّ هؤلاء المؤمنين الموالين لنا المعادين لأعدائنا لتسطع أنوارهم في عرصات القيامة على قدر موالاتهم لنا؛ فمنهم مَن يسطع نوره مسيرة ثلاث مائة ألف سنة وهو جميع مسافة تلك العرصات، ومنهم مَنْ تسطع أنواره إلى مسافات بين ذلك يزيد بعضها على بعض على قدر مراتبهم في موالاتنا ومعاداة أعدائنا يعرفهم أهل العرصات من المسلمين والكافرين بأنّهم الموالون المتولّون المتبرّؤون، يُقال لكلّ واحد منهم: يا وليّ الله! اُنظر في هذه العرصات إلى كلّ من أسدى إليك في الدُّنيا معروفاً أو نفّس عنك كُرباً أو أغاثك إذ كنت ملهوفاً أو كفَّ عنك عدوّاً أو أحسن إليك في معاملة فأنت شفيعه. . .» (42) .
طبقاً لحديث آخر عن الإمام السجّاد؛ فإنّ الأشخاص الذين يكون ملكوتهم بصورة إنسان هم المتمسّكون بالقرآن والعترة، والمعتقدون بالوحي والرسالة والولاية، وقد أحاط الدين وأمّن ظاهرهم وباطنهم؛ من هنا كان ظاهرهم وباطنهم إنسانيّاً، أمّا الذين كان باطنهم الفصل بين القرآن والعترة، ويقولون بأنّ الرسول اجتهد في تعيين الإمام بعده، فهو في الحقيقة جحود وإنكار للحقّ، وهو ما يظهر بصورة حيوانيّة.