67التيار الثالث: وهو الذي نميل إليه، فنحن نعتقد أنّه لابد من إصلاحات على وجهة نظر الفريق الأوّل والثاني معاً؛ لوضع الأمور في نصابها الطبيعي والصحيح، فعلى مستوى الفريق الأوّل نقول: إن زيارة المشاهد والمراقد والأماكن التاريخية في مكة والمدينة وعامة بلاد الحجاز ليست أمراً محرماً في حدّ نفسه حتّى نتشدّد معه بهذه الطريقة، فأيّ مانع أن يرتبط الناس بهؤلاء العظماء في البقيع وغيرها من وجوه وكبار أئمة أهل البيت النبوي والصحابة والشهداء وغيرهم، إنّه ارتباط بالقيم والمثل التي حملوها في تاريخ حياتهم، وزيارة المشاهد التاريخية تذكّر بتاريخ الإسلام ليبقى راسخاً في ذاكرة الحاجّ والمعتمر، يحدّث عن هؤلاء العظماء وعن ذاك التاريخ الحافل، بعد عودته إلى موطنه، إنها مقاصد شرعية عليا تظهر جلية في هذا الأمر، وبدل أن نحاربها علينا أن ندعمها ونرسّخها لربط الناس بهذا التاريخ وبهؤلاء الرجال.
نحن نعتقد أنه حتى الرسائل العملية الفقهية يجب أن تحوي - ولو باختصار - موجزاً عن تاريخ الإسلام في بلاد الحجاز والشخصيات الكبرى والأولى في هذا التاريخ؛ فالحاج عندما يذهب إلى هناك يذهب واعياً للتاريخ ولما هو موجود، فيكون حجّه عن وعي، فكلما رأى مَعْلَماً تذكّر كل ذلك المجد العريق للإسلام، فبدل أن ندمّر هذه الذاكرة التاريخية العظيمة علينا المحافظة عليها، فإن في ذلك ربط الناس - كما قلت - بالإسلام ومثله وقيمه.
نعم، نستدرك - وهنا نتحاور مع بعض أنصار الفريق الثاني أيضاً - ونقول: قد تصدر هنا أو هناك طرائق في التعبير لا نتفق معها، فالحديث عن عدم الاهتمام بالحج و شعائره وعدم الحضور الروحي معها لصالح التفاعل العاطفي مع الزيارات فحسب. . . هذا الحديث غير صحيح إسلامياً، ويجب ترشيد الناس الذين لا نوايا خبيثة لهم، ففي الزيارات - كما في أيّ عبادة أخرى - يجب على الفقه الإسلامي وعلى القيّمين على تطبيق الفقه والأخلاق، أن ينتبهوا من أيّ ممارسات مبالغ بها وتحوي إفراطاً وخروجاً عن جادّة الشرع، ليقفوا في وجهها حتّى لو كان فاعلها غير سيئ النية، فيجب ممارسة الإرشاد معه في هذا المجال أو ذاك، وهذا شيء لا يحصل في الزيارات فقط، بل يحصل في كل الأمور، فإذا ارتكب بعض المسلمين أخطاء في إحياء المولد النبوي الشريف فلا يعني ذلك حرمة إحياء هذا المولد، بل يعني ضرورة تصحيح هذه الأخطاء لو كانت موجودة. وإذا فعل الحجاج خطأ ما في طوافهم أو سعيهم فالمطلوب تصحيح الخطأ لا إلغاء الطواف والسعي.
نعم، من واجب علماء الدين في المذاهب كافة، أن ينتبهوا على الدوام للأخطاء التي يرتكبها عامة الناس أثناء أدائهم لعبادة هنا أو هناك، وأن يكونوا المصفاة التي تنقّي الدين من الكادورات التي تعلق به، إما عن عمد وسوء نية من بعض الناس أو عن جهل وعدم قصد سيئ من آخرين، وهذا يسري على المذاهب كافة ولا يختص بمذهب أو بآخر، حتّى نضع كل اهتمامنا بمذهب وكأن أتباع المذاهب الأخرى منزهون عن ذلك أو مثله! !
إذن، فرفض الزيارات بمعناها الواسع مرفوض لأنّه لا مبرّر شرعي له، كذلك إرخاء العنان للعامة من الناس أن يفعلوا أو يعتقدوا ما شاؤوا دون تصويب حركتهم أمر غير صحيح؛ فالمفترض التوازن والسير على جادّة الشريعة، كلٌّ حسب مذهبه، ولا يصح لنا الدخول في نوايا الناس وقصودها لاتهام هذا بالشرك وذاك بالغلو، وثالث بالتقصير ورابع باللامبالاة، بل نتعامل مع الظاهر ونحمل المؤمن والمسلم على الأحسن، كما أمرنا في الكتاب والسنة أن نتعامل بود وأخوة مع المسلمين.
1) البقرة: 197.
2) الكافي 164: 2.
3) محمود شلتوت، من توجيهات الإسلام: 403، دار القلم، القاهرة.
4) المائدة: 97.
5) الحج: 36.