66وبهذا يتبين أن اتجاه علمنة العبادات ليس اتجاهاً صائباً عند ما يؤخذ على إطلاقه.
2- الحج واتجاه الاعتدال بين الحقّ والخلق
الاتجاه الثاني: وهو الاتجاه الذي يرى أن للعبادات وجهين: أحدهما روحي غيبي في اتصاله مع الله سبحانه، وثانيهما اجتماعي - سياسي في علاقته بالخلق، وأنه لا يصح تجاهل أحد الوجهين لصالح الآخر، بل يفترض إيجاد التوازن بينهما.
وطبقاً لهذا الإطار العام الذي يحكم العبادات، يجرى تطبيق المفهوم عينه على الحج، فللحج بُعد سياسي ووحدوي واجتماعي كما يقول الشيخ محمود شلتوت (3) ، ونجد ما ينصر هذا البعد في آيات القرآن الكريم، قال تعالى: جَعَلَ اللهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْىَ وَ الْقَلائِدَ. . . (4) ، فكلمة «قياماً» لها دلالة على مكانة هذه المسميات الواردة في الآية في إقامة شؤون الناس.
وقال سبحانه: وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (5) ، وقال عز من قائل: لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِى أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَْنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (6) .
فهذه الآيات تضع الهدي في سياق تعاون اقتصادي يكفل فيه الغنيّ الفقير ليطعمه، فلا ينظر للجانب الروحي الصرف، وإنما يربط العبادة بجانبها الاجتماعي أيضاً.
من هنا، نميل إلى الاتجاه الثاني الذي يحافظ على كلا بُعدي العبادة، فلا يفرط هنا أو هناك، ونحن نجد في السيرة النبوية كيف لم ينأى الرسول (ص) عن إقحام القضايا السياسية في الحج، فلم يقل: إنّ الناس في حج، ولا ينبغي في أثناء العبادات أن نعلن البراءة من المشركين، بل أرسل علياً (ع) ليعلن هذا القرار السياسي الهام جداً، والذي أمره به القرآن الكريم في مطلع سورة التوبة (7) .
نعم، قد نختلف في كيفية وطريقة وآلية المحافظة على البعد السياسي في الحج، وربما أرجّح طريقةً وترجّح أنت أخرى، وهذا شيء طبيعي لا يضرّ بأصل الحفاظ على الحيثية الاجتماعية والسياسية لهذه الفريضة، إنما حديثنا عن المبدأ الذي لا ينبغي هدره لأجل الخلاف في التفاصيل والآليات.
بين فقه الحج و فقه الزيارة
في قضية فقه الحج وفقه الزيارة، نجد أنّه لابدّ من دراسة هذا الموضوع ورصده على مستوى الاهتمام، فنحن نلاحظ وجود تيارات ثلاثة في هذا المجال، وهي:
التيار الأول: يرى أنصار هذا التيار الفكري والديني والثقافي أن الزيارات مبدأ مرفوض، فلا معنى لزيارة القبور في البقيع وغيرها، وأن الله تعالى قد نهانا عن ذلك من خلال السنّة النبوية، فالحاج عليه الذهاب إلى الحج وأداء أعماله ومناسكه، وأن لا يلتهي بمثل هذه الزيارات للقبور ونحوها عن أعمال الحج وذكر الله والتضرّع إليه، نعم زيارة الرسول الأكرم (ص) وردت بها السنّة من حيث زيارة المسجد النبوي.
التيار الثاني: ويرى أو يمارس اهتماماً عظيماً بأمر الزيارات، حتّى أننا نجده يذهب إلى الحجاز والزيارة حاضرة في قلبه ومشاعره أكثر من حضور الحج نفسه، إنّه يعتقد أن الزيارات مقوّم أساس لإيمان المرء وأنّها يجب أن تكون في سلّم الأولويات في فقه الحج وقضاياه.