44
ائمة اهل البيت (عليهم السلام) حفاظ السيرة النبوية و سننه و أحاديثه
يظهر من سبر التاريخ وفلتات مراقبيه أنّ المنع من تدوين الحديث والروايات لم يظهر بعد وفاة النبيّ (ص) ، بل له جذور في أيّام حياته (ص) وأنّ هناك بعض الناس كانوا بصدد الحظر على الحديث أن ينشر والمنع على الروايات أن تُذاع وتُنقل.
وذلك خلافاً لما كان رسول الله (ص) يريده من نشر أقواله وإفشاء آثاره خوفاً لها من الاندراس وحفظاً عليها من الاندثار حتّى أنّه ورد عنه في الحديث المشهور: «مَنْ حفظ على اُمّتي أربعين حديثاً بعثه الله يوم القيامة فقيهاً» .
فيا ترى، حفظ الحديث إذا كان مطلوباً فالمنع من نشره كيف يتلائم معه؟ فهل الحفظ المطلوب هو الحفظ عن ظهر القلب لا الحفظ بالكتابة؟ !
أوليس ثبت الحديث وكتابته من وجوه حفظ الحديث ومصاديقه؟ !
فما الذي أحلّ رواية الحديث وحرّم كتابته؟ !
ثمّ لماذا يحثّ النبيّ (ص) الاُمّة على نشر حديثه وهناك اُناس يمنعون من ذلك؟ ! وما الذي يدعوهم إلى مخالفة رسول الله (ص) ؟ ! فهل أنّ ذلك اجتهاد على خلاف نصّه (ص) ؟ !
أو لم يكن رسول الله (ص) أدرى من صحبه بما ينبغي العمل عليه؟ !
أفهل كان رسول الله (ص) لا يدرك من الصلاح ما أدركه من منع من نشر الحديث؟ ! هذا ورسول الله (ص) لا ينطق عن الهوى بل ما يقوله إنّما هو وحيٌ يُوحى علّمه شديد القوى. وهو يعلم أنّه لو تقوّل على الله بعض الأقاويل لأخذ الله منه باليمين ثمّ لقطع منْهُ الْوَتِينَ وَمَا أَحَد عَنْهُ حَاجِزِينَ.
ثمّ المعروف أنّ منع تدوين الحديث أمر حادث بعد وفاة النبيّ (ص) ولكن كما ذكرنا يظهر من بعض النصوص أنّ الأمر أسبق والقضيّة أقدم; فقد روى في مسند أحمد بسنده عن عبدالله بن عمر قال: كنت أكتب كلّ شيء أسمعه من رسول الله (ص) اُريد حفظه فنهتني قريش فقالوا: إنّك تكتب كلّ شيء تسمعه من رسول الله (ص) و رسول الله (ص) بشرٌ يتكلّم في الغضب والرِّضا، فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله (ص) فقال: اُكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منّي إلاّ حقّ. . . (1) .
ومثله رواية الدارمي وأبي داود إلاّ أنّ فيها:
وذكرت ذلك لرسول الله (ص) فأومأ بإصبعه إلى فِيه وقال:
اُكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلاّ حقّ (2) .
وممّا يتناغم مع حديث منع تدوين الحديث هو قولة القائل: حسبنا كتاب الله، دَع ما ضمّ إليه القائل من أنّ رسول الله (ص) يهجر الذي هو تصريحٌ بهجر الكتاب وترك العمل به حيث يقول: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى (3) ، وهل يبقى للرسول اعتبار فيما جاء به لو جاز عليه الهجر في القول والشطط في الكلام؟ !
والعجب كلّ العجب من الاعتذار عن قائل الهجوة المتقدِّمة وصاحب الزلّة الآنفة أو اعتذاره نفسه بأنّه فعل ما فعل لحفظ الإسلام من الضياع وصون الدِّين من الانمحاء، وصاحب الرسالة أولى وأدرى بحفظ ما جاء به، والنبيّ (ص) أعلم وأخبر بذاك وهو ممدودٌ بالوحي ومؤيَّدٌ بالسماء ومُسدّدٌ بالنبوّة، والله يرعاه والملائكة خَدَمَتهُ.
ويظهر من ملاحظة الآثار ودراسة الأخبار أنّ القولة المتقدّمة صدرت أو كان صدورها مترقّباً للنبيّ (ص) من بعض الاُمّة حسبما يستفاد من بعض النصوص، وأنّه (ص) ردَّ عليها في حال صحّته وسلامته كي لا يبقى عذر لمعتذر ولا ذريعة لمتشبّث ولا يكون هناك حجّة لمن يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر.