40إذن، لابدّ من الدخول في السوق، ولا غنى للإنسان عن السعي رغم كلّ السلبيّات والأعراض المترتّبة على السعي في الأسواق.
وإلى جانب ذلك لابدّ من عمل واسع لتوجيه السعي، وتهذيبه في حياة الناس، ويتلخّص برنامج الإسلام في تهذيب سعي الإنسان في السوق في نقطتين:
النقطة الاُولى: الاستعانة بالله والتوكّل عليه في السعي، والإيمان بأنّ الله تعالى مبدأ كلّ سبب، ومصدر كلّ حول وقوّة، ولا حول ولا قوّة في هذا الكون بغير الله، ومن دون إذن الله لا يحقِّق الإنسان بسعيه أمراً، ولا يستغني الإنسان بسعيه، وجهده، وماله، وسلطانه، مهما بلغ عن الاستعانة بالله تعالى، ولا يُغنيه أحدٌ عن الله، ولا يكفيه شيء من غير الله، ولا تصحّ الاستعانة بغير الله إلاّ بإذن الله، فلا يستقلّ شيء في الكون في الفعل والتأثير عن الله، فهو سبحانه مبدأ كلّ شيء والمُهيمن على كلّ شيء، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله.
وبهذا البيان يدخل السعي في السوق في دائرة الاستعانة بالله وتحت مقولة التوحيد، ويكون - كما ذكرنا من قبل - أحد شطري التوحيد، فإذا آمن الإنسان بهذه الحقيقة الكونيّة الكُبرى، وآتاه الله مثل هذا الوعي والبصيرة، لا يستقلّ في سعيه عن ذكر الله، والدّعاء، والتوكّل، ويقترن سعيه في السوق بذكر الله والاستعانة به.
وهذا الارتباط بالله في السعي يعدِّل السعي ويلطّفه، ويُزيل عنه الأعراض السلبيّة التي تجتمع حوله في علاقته بالله وبالناس وبالدُّنيا.
في هذه الصورة يخرج السعي عن حالة التقاطع مع الذِّكر والعبادة، ويقع في امتداده.
النقطة الثانية: في تعديل سعي الإنسان في السوق؛ هي التقوى والالتزام بحدود الله، وحلاله وحرامه. وهذا الالتزام بالحدود الإلهيّة يعدِّل سعي الإنسان في السوق وساحات المعيشة بشكل كامل. والتقوى هي الالتزام بطاعة الله تعالى في الحلال والحرام. وبالتقوى يقع السعي في حوزة الشريعة ولا يخرج عن حدود الله تعالى في الحلال والحرام.
وعلى هذا النهج يدخل (السعي) في امتداد (العبادة والذِّكر) أوّلاً، ويقع تحت هيمنة الشريعة وحدودها ثانياً.
وبهذه الصورة يتمّ تأمين وضمان سعي الإنسان في الأسواق، فيواصل الإنسان عمله سعياً للرزق في الدُّنيا بصورة أمينة، دون أن تتعرّض علاقته بالله، وبالناس، وبالدُّنيا، للخطر والأذى.
وقد ذكرنا من قبل أنّ حياة الإنسان شطران؛ شطرٌ يختصّ بسعي الإنسان للآخرة، وشطرٌ آخر يختصّ بسعي الإنسان للحياة الدُّنيا، وأكثر مصائب الإنسان ومحنه نابع من الشطر الثاني، وليس للإنسان غنىً عن الشطر الثاني؛ فهو سُلّم الإنسان الذي يرقى منه إلى الشطر الأوّل، ولابدّ له من السعي كما لابدّ له من الكدح إلى الله بالعبادة.
بقاء السعي وضياعه
سعي الإنسان يبقى ويضيع، وأقصد ببقاء السعي: أنّه ينتفع منه صاحبه بعد موته ولا يندثر ولا ينفد، ويبقى غضّاً طريّاً.
وهذا هو العمل الذي يقصد به صاحبه وجه الله، ويلتزم فيه بحدود الله تعالى، فلا يتجاوز فيه حدّاً من حدود الله، وهذا هو الإخلاص والتقوى.