24وفي مقابل هذه الحالة حالة (وحدة الوجهة) ، وهي الحالة التي دعا إليها أبونا إبراهيم (ع) : إِنِّى وَجَّهْتُ وَجْهِى لِلَّذِى فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِن الْمُشْرِكِينَ (8) .
فتكون وجهة الإنسان في كلّ أحواله إلى الله سواءً في المسجد، أم في السوق، أم في البيت، أم في المزرعة، أم في الحرب أم في السلم، وفي السرّاء والضرّاء، وفي اليُسر والشدّة.
فإنّ من الناس من يتوجّه إلى الله في البأساء والضرّاء، وينقلب إلى نفسه ودُنياه في أيّام العافية والسرّاء.
ومن الناس من يتوجّه إلى الله في المسجد، وإلى دنياه في السوق.
ولا يكتمل للإنسان التوحيد، إلاّ حينما يجعل الله تعالى وجهته في السرّاء والضرّاء، وفي الشدّة والرخاء، وفي المسجد والسوق. . . في كلّ هذه المواقع تكون وجهته إليه تعالى (9) .
4- السعي والكلم الطيّب
إنّ سلوك الإنسان إلى الله «سعي» و «كلم طيّب» ، وإلى هذا يشير قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ، والكلم الطيّب الصاعد إلى الله هو نيّة التقرّب إلى الله، والإخلاص، والخشوع، والتضرّع، والحبّ والبغض، والولاء، والبراء.
والذي يصعد إلى الله هو الكلم الطيّب، إلاّ أنّ الذي يرفع الكلم الطيّب إلى الله هو العمل الصالح وهو (السعي) ، وسوف يأتي توضيح أكثر لهذه الآية.
فلا يصحّ تفريغ السعي من الكلم الطيّب؛ لأنّ السعي من دون الكلم الطيّب لا قيمة له ولا يعرج منه شيء إلى الله.
ولا يصحّ تجريد الكلم الطيّب عن العمل الصالح (السعي) ؛ لأنّ الكلم الطيّب يبقى عندئذ على الأرض، ولا يصعد إلى الله؛ لأنّ العمل الصالح هو الذي يرفع الكلم الطيّب إلى الله وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ .
ولستُ أدري ماذا كان يغلي في نفس اُمّ إسماعيل يومئذ، في ذلك الوادي القفر، وهي تلهث راكضةً من الصفا إلى المروة وبالعكس، من الدّعاء، والاستغاثة بالله، والاضطرار إلى الله، وهي ترى وحيدها إسماعيل يكاد يهلك من شدّة الظمأ، ولا تعرف لابنها ولنفسها مخرجاً من هذا الهلاك إلاّ أن يرحمها الله.
لستُ أدري ماذا كان يغلي في صدرها من دعاء واستغاثة لله تعالى. . . ؟ ولكنّنا نعلم أنّ الله تعالى أسرع في الاستجابة لدعائها واستغاثتها وسعيها، وأغاث لهفتها، وفجّر الماء تحت قدم ابنها، فرجعت المرأة إلى ابنها وهي قريرة العين باستجابة الله لدعائها أوّلاً، وبنبع الماء من الأرض تحت قدم ابنها ثانياً.
أيّهما كان أقرّ لعين تلك المرأة يومئذ في ذلك الوادي القفر:
شعورها بملأ قلبها وعقلها بأنّ الله تعالى أغاثها واستجاب دعاءها، أم الماء العذب البارد الذي كان يتدفّق من الأرض تحت قدم ولدها، وهي تلملمه، وتقول: زم زم لئلاّ يذهب هدراً.
نحن لا نتردّد لحظة واحدة أن نقول: إنّ الأوّل كان أقرّ لعينها من برد الماء المتدفّق من الأرض.
وأيّ شيء أقرّ لعين إنسانة واعية عارفة من مثل هاجر أن تعرف أنّ الله تعالى سمع في ذلك الوادي القفر دعاءها وعرف اضطرارها، وكان سعيها ولهاثها بعينه وسمعه تبارك وتعالى، فاستجاب لدعائها. في حين لم يسمعها، ولم يسمع نداءها واستغاثتها أحدٌ في ذلك الهجير، ولم يرَ أحد سعيها ولهاثها بحثاً عن الماء. . ولكن الله تعالى رآها وسمعها ورحمها وأغاثها، واستجاب لها، وأذاقها برد الاستجابة والإغاثة بعد الاضطرار ولهفة الاستغاثة.
حنانيك ياربّ، ما أعذب رحمتك، وما أجمل صنعك، وما أسرع إغاثتك، وما أوسع رحمتك بعبادك.