23ومنها المنازل النفسيّة؛ كحالة الإنكسار والبكاء والخشوع فإنّها أقرب الحالات إلى رحمة الله تعالى، ويُستجاب فيها الدّعاء وقد ورد في النصوص الدينية: إنّ الله في القلوب المنكسرة، ومنها غير ذلك. . . والدّعاء من منازل الرحمة، والتقوى من منازل الرحمة.
و (السعي) من منازل الرحمة، فمَن أراد الرزق فعليه أن يسعى في الأسواق، ومَن أراد العلم فعليه أن يسعى إليه في المدارس، ومَن أراد الشفاء فعليه أن يسعى إليه لدى الأطبّاء. . . وهكذا.
جعل الله (السعي) من منازل الرزق والرحمة، فلو أنّ الإنسان لم يخرج من بيته سعياً إلى الرزق لا يُرزق، ولو أنّ الإنسان لم يخرج إلى المدارس سعياً إلى العلم لا يتعلّم.
لقد كانت اُمّ إسماعيل تعلم أنّها في واد غير ذي زرع، لا يوجد فيه ماء، ولا إنسان، ولكنّها لمّا وجدت أنّ وحيدها إسماعيل (ع) يكاد أن يهلك من الظمأ تحرّكت وسعت، وأعادت الحركة والسعي سبعة أشواط، لا تكلّ ولا تملّ، ولا تتعب ولا تيأس من السعي حتّى رزقها الله الماء.
2- والرزق من عند الله
قد جعل الله تعالى السعي مفتاحاً للرزق، ولكن الرزّاق هو الله تعالى، وعلى الإنسان أن يعرف كلاًّ من هاتين الحقيقتين.
وقد يطلب الله من عبده السعي ثمّ يجعل رزقه في غير موضع السعي؛ حتّى يأخذ العبد بأسباب السعي ويتكامل بالسعي، ثمّ يجعل رزقه في غير موضع السعي، حتّى تبقى ثقة العبد في الرزق بالله تعالى، ويعلم أنّ الله هو الرزّاق.
لقد بلَّغ رسول الله (ص) الإسلام في مكّة طويلاً، ودعا قريش إلى دين الله، وتحمّل من قريش هو وأصحابه الكثير، وذهب إلى الطائف، وبعث أصحابه إلى اُولى الهجرتين، الحبشة، فلمّا أذِنَ الله تعالى لهذا الدِّين أن ينتشر جعل الله تعالى الانفتاح الأوّل على الإسلام في يثرب (المدينة) وليس في مكّة، ولا في الطائف، ولا الحبشة، وإنّما كان في يثرب حيث كان الفتح الأوّل لهذا الدِّين.
وقد سعت هاجر في هذا الوادي القفر سبعة أشواط بحثاً عن الماء، تسعى من الصفا إلى المروة، ثمّ من المروة إلى الصفا، ولكن الله تعالى لم يجعل رزقها ورزق ابنها من الماء في موضع سعيها وبحثها بين الصفا والمروة، وإنّما جعله على طرف الوادي عند البيت الحرام.
كان لابدّ لها من السعي، بحثاً عن الماء، وكان لابدّ لها أن تعلم أنّ الله هو الذي فجّر الماء من تحت قدم إبنها، وليست هي التي اكتشفت الماء، كان لابدّ لها من السعي، ولابدّ لها من الوعي إنّ السعي ضرورة من ضرورات حياة الإنسان في التكوين والتشريع معاً، لايمكن أن يستغني عنه الإنسان، ولا يسمح بالتخلّي عنه الدين، ولكن السعي - للأسف - عامل مضلّل في حياة الإنسان، يحجب الإنسان عن الله، ولكي لا يؤدّي السعي إلى تضليل الناس، فقد يجعل الله تعالى رزق عباده في غير موضع سعيهم، وهكذا كان الأمر في سعي هاجر.
3- التوحيد في السعي
إنّ سعي الإنسان شتّى، فقد يسعى لآخرته، وقد يسعى لدُنياه، وقد يسعى لمعاشه وقد يسعى لمعاده. الإنسان قد يعمل في السوق، ويذهب للتجارة، ويتزوّج، وقد يصلّي ويصوم ويحجّ ويذكر الله، وكلّ ذلك سعي.
فهل تكون وجهة الإنسان في صلاته وصومه وحجّه وذكره إلى الله تعالى، وفي زواجه وسعيه في السوق إلى نفسه (الأنا) ، وفي علاقاته الاجتماعيّة وخدماته الإنسانيّة إلى الآخرين. . . ؟
وهذه هي حالة (تعدّدية الوجهة) ، وهي حالة معروفة لدى أكثر الناس، وهذه الحالة تشتّتهم وتحرفهم عن التوحيد.