21هذه القصّة بفصولها الثلاثة تعدّ من روائع التوحيد.
وهي ذات مشاهد ثلاثة:
بطل المشهد الأوّل فيها هو إبراهيم (ع) حيث هاجر بزوجته (اُمّ ولده) اُمّ إسماعيل، وولده إسماعيل (عليهما السلام) إلى واد غير ذي زرع، وتركهما لوحدهما في واد قفر، لا ماء فيه ولا زرع، ولا بشر ولا طير، وغادرهما مستودعاً الله إيّاهما.
وبطلة المشهد الثاني هاجر (س) ، اُمّ ولد إبراهيم، حيث تتقبّل هذه الهجرة؛ لأنّ الله تعالى أمره بها، فلمّا نفذ ما لديها من الماء وغلب الظمأ على إبنها إسماعيل (ع) بدأت بالسعي بين الجبلين بحثاً عن الماء حتّى استجاب الله تعالى لسعيها ودعائها وفجّر لها الماء من تحت قدم إسماعيل.
وبطل المشهد الثالث هو إسماعيل (ع) ، حين عاد إليه أبوه إبراهيم - وهو يومئذ شاب يافع - فأبلغه بأمر الله تعالى له بأن يذبح ابنه بيده: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْىَ قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّى أَرَى فِى الْمَنَامِ أَنِّى أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى. قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِى إِنْ شَاءَ اللهُ مِن الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِى الْمُحْسِنِينَ (4) .
ويتضمّن كلّ مشهد من مشاهد القصّة الثلاثة درساً عالياً من دروس التوحيد، نُشير إليه هنا باختصار:
الدرس الأوّل: التوكّل والثقة بالله
لقد جاء إبراهيم (ع) بزوجته هاجر (اُمّ إسماعيل) إلى هذا الواد القفر بأمر من الله: «وكان إبراهيم لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر ونخل وزرع إلاّ قال لجبرئيل إلى هاهنا، فيقول: لا أمض حتّى أتى مكّة. . . فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجرة، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساءً كان معها فاستظلّوا تحته، فلمّا سرحهم إبراهيم ووضعهم وأراد الانصراف منهم إلى سارة، قالت له هاجر: يا إبراهيم لِمَ تدعنا في موضع ليس فيه أنيس ولا ماء ولا زرع؟ فقال إبراهيم: الله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثمّ انصرف. . . فلمّا بلغ كراء، وهو جبلٌ بذي طوى التفت إليهم إبراهيم فقال: رَبَّنَا إِنِّى أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِى بِوَاد غَيْرِ ذِى زَرْع عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِن النَّاسِ تَهْوِى إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ، ثمّ مضى وبقيت هاجر» (5) .
وهذا هو الدرس الأوّل في هذه القصّة.
ثقة مطلقة بالله تعالى وطاعة له وتوكّلٌ عليه، يترك زوجته وولده إسماعيل، في هذا الوادي القفر ويذهب عنهم بأمر الله تعالى، قد جعل الله تعالى عليهم وكيلاً عنه في رعايتهم وحراستهم، وغادرهما واثقاً بالله، متوكّلاً عليه، سائلاً إيّاه أن يرعاهما ويرزقهما من الثمرات.
الدرس الثاني: السعي
وهذا هو الدرس الثاني الذي يتضمّنه موقف اُمّ إسماعيل، تقول الرواية المتقدّمة، وهي عن هشام، عن أبي عبدالله (ع) :
«فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل، وطلب الماء، فقامت هاجر في الوادي في موضع السعي، ونادت، هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعدت على الصفا ولمع لها السراب في الوادي وظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت. . . حتّى بلغت سبع مرّات، فلمّا كان في الشوط السابع، وهي على المروة، نظرت إلى إسماعيل، وقد ظهر الماء من تحت رجليه، فعادت إليه» (6) .