2
الحج رموز و حكم (7)
الله سبحانه وتعالى حكيم، لهذا كان لأفعاله أهداف (1) ، نعم، إنّه تبارك وتعالى منزّه عن الهدف أيضاً بسبب غناه الذاتي، إلاّ أنّ العالم نفسه له هدفٌ وجوديّ يناله ويبلغه. والهدف الأسمى والكمال النهائي للمخلوق يكمن في صيرورته عبداً لله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالاِْنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (2) .
ومن الواضح أنّ الله تعالى ليس محتاجاً حتّى يُعبد؛ إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الاَْرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللهَ لَغَنِىٌّ حَمِيدٌ (3) فالعبادة - بظاهرها وباطنها - غايةٌ للمخلوق، وليست غاية للخالق الغنيّ المحض.
«الحجّ» مثل سائر العبادات، غاية للخلق، لا للخالق، لأنّه عين الغنى ومحض الكمال، وبذلك يظهر سرّ الكلام الإلهي واضحاً حيث يقول: وَللهِِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِىٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (4) ؛ لأنّ الحجّ عبادة فرضت من الله تعالى على عبيده، وهم الذين يحتاجون لإقامة الحجّ والعمرة، فإذا كفروا - والحال هذه - فعليهم أن يعلموا أنّ الله غير محتاج للعالمين، فكيف يحتاج للخلق من الناس وعبادتهم؟ !
العبادة، وسيلة الشهود الوحيدة
هدف الإنس والجنّ في نظام التشريع هو تكاملهم العبادي، وإذا ما فتق الإنسان صاحب الروح العقلي المجرّد، روحَه، فإنّه سوف يصبح هدفاً للكثير من المخلوقات التي تقع دونه، وإن كان الهدف النهائي هو الله سبحانه وتعالى.
إنّ هدف خلق العالم هو اطّلاع الإنسان على علم الله وقدرته العظيمين اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنْ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْء عِلْماً (5) ، والعلم الحصولي واليقين الاستدلالي وإن كانا كمالاً علميّاً وهدفاً مقصوداً إلاّ أنّهما يعدّان وسيلةً - فقط - مقارنةً بالعلم الحضوري واليقين الشهودي كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوْنّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوْنّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (6) ، أي أنّه يمكن الوصول إلى عين اليقين بعلم اليقين.
بناءً عليه، يمكن اعتبار اليقين الشهودي بالمعارف هدفاً نهائيّاً للخلقة، وهذا اليقين الشهودي يعتمد دائماً على العبادة التي هي الوسيلة الوحيدة لشهود السالك وظهور الغيب وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (7) ؛ أي أنّه يمكن الوصول إلى عين اليقين بعلم اليقين.
نعم، شكل الاعتماد على العبادة يتناسب في كلّ نشأة مع تلك النشأة، ففي الدُّنيا تعتمد على العبادات التشريعيّة، وفي الآخرة تقوم على باطن تلك العبادات.
إنّ العبادة وإن كانت - بالمعنى الذي ذكرناه- غاية الخلقة، إلاّ أنّها في نفسها مقدّمة لليقين، واليقين هو الغاية وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ، والحجّ أيضاً يمثِّل إعداداً لهذا الهدف الرفيع للعبادة، أي اليقين؛ لأنّه نورٌ وبصيرة وشهود، من هنا جاء في الروايات أنّ تارك الحجّ يحشر أعمى، وأنّه أعمى في الدُّنيا وفي الآخرة كذلك وأضلّ (8) .
ويُستنتج من الآية الشريفة: اللهُ الَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الاَْرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الاَْمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَىْء عِلْماً (9) ، أنّ هدف ظهور العالم، أي ظهور الحقّ في مرآة الخلق، هو اطّلاع الإنسان السالك على علم الحقّ وقدرته، وهذا العلم الشهودي يجعل العارف الواصل مظهراً للعليم القدير، بحيث إذا أذِنَ الله تعالى، يمكنه ببسم الله الرحمن الرحيم أن يفعل ما كان يتحقّق في الآخرة بصرف الإرادة. . . أن يفعله في الدُّنيا كذلك، وكلّ ما يريد أن يعلمه فإنّه يشاهده.