27و الظاهر أنّ بداية هذا الإخبار والإعلام كانت في أوائل ذي القعدة الحرام، فقد قال ابن إسحاق: فلمّا دخل على رسول الله(ص) ذو القعدة تجهّز للحج، و أمر الناس بالجهازله 1.
وخرج النبي الأكرم(ص) من المدينة مغتسلاً متدهناً و خرجت معه نساؤه كلهنّ، و تبعه جمّ غفير من المسلمين الذين حرصوا على مرافقته من المدينة ليتشرّفوا بصحبته.
قال الإمام جعفر الصادق(ع) : «فعلم به من حضر المدينة و أهل العوالي والأعراب فاجتمعوا، فحجّ رسول الله(ص) ،وإنّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون ويتبعونه، أو يصنع شيئاً فيصنعونه 2.
وروي عن جابر بن عبدالله الأنصاري أنّه قال: فقدم المدينة بشر كثير كلّهم يلتمس أن يأتمّ برسول الله(ص) و يعمل مثل عمله 3.
وكان المسلمون يتوقعون هذا السفر، ليتعلّموا مناسك الحج، فأيّ منسك أدّاه رسول الله (ص) فهو من الحج الإبراهيمي، و ما تركه فهو من أعمال الجاهلية الأُولى.
ويتجلّى هذا التهيّؤ و الانتظار في رغبتهم و شوقهم و اجتماعهم العظيم حتّى سلكوا طريق مكة رجالاً و ركباناً، طريقاً يقرب من ألف كيلومتر ذهاباً و إياباً.
وقد اختلف المؤرّخون والمحدّثون في عدد المسلمين آنذاك، فمنهم من قال: إنّهم كانوا مئة و عشرين ألفاً 4.
وقال المقريزي في وصف خطبة النبي(ص) في يوم عرفة: فإنّه شهد الخطبة نحو من أربعين ألفاً 5.
وقال الطبرسي: وبلغ من حج مع رسول الله(ص) من أهل المدينة و أهل الأطراف والأعراب سبعين ألف إنسان أو يزيدون 6.
ثم إنّ رسول الله(ص) بعد أن أتم الحج غادر مكة المكرمة متوجّهاً إلى المدينة في الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة الحرام، فدخلها في الثالث و العشرين منه.
وخلال مسيرته هذه، كانت له وقفات في العديد من الأماكن التي مر بها و شهدت له إلقاء الخطب الرائعة و التوجيهات التربوية و الحضارية السامية، والإرشادات التعليمية حيث إنّه كان يجسّد عملياً أهداف الحج التي أرادها الله تعالى من هذه الفريضة الإسلامية الهامة.
وسوف نشير في هذه الرسالة بالإيعاز الموجز و الإشارة العابرة إلى خطبه و كلماته التي ألقاها في هذه الرحلة التاريخية، و ننوّه إلى ما تضمّنته كلّ منها إلى مبادئ الإسلام و أُصوله و مقاصد الشريعة و أهدافها.
عدد خطبه(ص) في حجة الوداع
اختلف أصحاب السير و المؤرّخون في عدد الخطب التي ألقاها النبي الأكرم(ص) في حجة الوداع.
فقد قال الحلبي في السيرة: خطب رسول الله(ص) في الحجّ خمس خطب: الأُولى يوم السابع من ذي الحجّة بمكّة، و الثانية يوم عرفة، و الثالثة يوم النحر بمنى، و الرابعة يوم القرّ 7 بمنى، و الخامسة يوم النفر الأوّل بمنى أيضاً 8.
ويقول المقريزي: خطب(ص) في حجّته ثلاث خطب: الأُولى قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكّة، و الثانية يوم عرفة بعرفة حين زاغت الشمس على راحلته قبل الصلاة، و الثالثة يوم النحر بمنى بعد الظهر على راحلته القصواء . و قيل: بل خطب الثانية ثاني يوم النحر.
ثم قال: و قال المحب الطبري: دلّت الأحاديث على أنّ الخطب في الحج خمسة؛ خطبة يوم السابع من ذي الحجة، و خطبة يوم عرفة، و خطبة يوم النحر، و خطبة القرّ، و خطبة يوم النفر الأوّل 9.
و مهما كان الحال فعلينا أن نورد ما ذكرته كتب التاريخ و الحديث من خطبه و كلماته(ص) ، وقد رتّبناها حسب زمانها و مكانها، فكانت كما يلي:
1- خطبته(ص) في اليوم السابع و الثامن من ذي الحجة
قال الواقدي في مغازيه: خطب رسول الله(ص) قبل التروية بيوم بعد الظهر بمكة 10.
وقال الحاكم النيسابوري في مستدركه: كان رسول الله(ص) إذا كان قبل التروية بيوم خطب الناس فأخبرهم بمناسكهم 11.
وجاء في صحيحة معاوية بن عمّار الطويلة عن الإمام جعفر الصادق(ع) : «فلمّا كان يوم التروية عند زوال الشمس أمر(ص) الناس أن يغتسلوا و يهلّوا بالحجّ، و هو قول الله عزّ و جلّ الذي أنزل على نبيّه: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً 12 فخرج النبي(ص) وأصحابه مهلّين بالحجّ حتّى أتوا منى، فصلّى الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة و الفجر، ثمّ غدا و الناس معه» 13.