86سمع عن الإسلام والمسلمين في مكة وأنهم يجتمعون برسول الله(ص) في دار الأرقم بن أبي الأرقم .. فلم يتأخر طويلاً بل أطلق ساقيه ليسجل سبقاً عظيماً وهو يعلم جيداً بحكم ذكائه ومعرفته بوالديه وبالذات أمه صاحبة الكلمة والسطوة، أنه سيسلب النعيم الذي هو فيه وسيتبدل حاله من السعة إلى الضيق، ومن الراحة إلى التعب، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الترف إلى الحرمان إن هو آمن..
ولكنه - وكما يصفه المسلمون - مصعب الخير، آثر الحياة الآخرة ونعيمها الخالد على الدنيا ونعيمها الزائل، بعيداً عن الزهو والدلال وما يتركانه من تعال و كبرياء وطغيان...
تِلْكَ الدّٰارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهٰا لِلَّذِينَ لاٰ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لاٰ فَسٰاداً .
لقد انطلق مسرعاً في ذلك الصباح إلى حيث دين الله وآياته التي تتلى ورسوله الكريم إلى الصفا إلى دار الأرقم حيث كان له اللقاء المبارك مع الإسلام..
فما أن وقع نظره على رسول الله(ص) حتى بسط يده مبايعاً، وما إن لامست يده بل يداه يد رسول الرحمة والبركة حتى تهلل وجهه وأشرق جبينه ووضح البشر بين عينيه وهو يعلن الشهادتين لينضم إلى إخوانه فينال وسام السابقين الأولين إلى الإسلام ، ، حتى نزلت السكينة عليه والحكمة وحتى غدت العيون لتزداد له هيبة وتمتلأ القلوب إعجاباً به وإكباراً له كلما رأته واطلعت على سيرته العطرة الواعية الواعدة ..
آمن بالله تعالى وصدق دينه ونبيه متحدياً بذلك قريشاً بعتادها وقوتها وجبروتها وعنادها، وهو يرى تعذيبها لمن آمن من قبله من المستضعفين في رمضاء مكة.
مصعب وأمه
كانت أم مصعب تتمتع بقوة وصلابة ومهابة، لهذا حين أسلم مصعب اتخذ قراراً أن يكتم إسلامه حتى يقضي الله أمراً، إلا أنها علمت بعد حين بإسلامه فقد أبصره عثمان بن طلحة مرة وهو يدخل إلى دار الأرقم ورآه أخرى وهو يؤدي الصلاة فأسرع إليها ينقل لها نبأ إسلام مصعب الذي كانت تحبه حباً شديداً وتحرص عليه حرصاً كبيراً وقد أفقدها هذا الخبر صوابها فحاولت أن تثنيه عن الإسلام إلا أنها لم تجد عنده ضعفاً أو تنازلاً أو ميلاً لما تريده منه بل لم تحدثه نفسه بخيار يكون بديلاً لإيمانه، فراحت تشتد في معاملتها له وتقسو عليه و تضيق في عيشته وحركته أكثر فأكثر ومنعته من كل نعيم كانت تقدّمه له..
نعم لقد ضيقت عليه وحبسته وبذلت كل ما تستطيعه من جهد لترده عن دينه، لكنها واجهت من ابنها مصعب إصراراً أكبر على الإيمان. فلما آيست منه طردته من بيتها ثم حرمته من المال كثيره وقليله .
.. أما مصعب فقد واجه أمه وعشيرته وأشراف مكة المجتمعين يتلو عليهم آيات من القرآن الكريم ، فهمّت أمه أن تسكته بلطمة ولكنها لم تفعل ، وإنما حبسته في زاوية من زوايا دارها وأحكمت عليه الغلق ، حتى علم أن هناك من المسلمين من يخرج إلى الحبشة ، فاحتال على أمه ومضى إلى الحبشة وعاد إلى مكة ثم هاجر الهجرة الثانية إلى الحبشة، ولقد منعته أمه حين يئست من استجابته لها كل ما كانت تفيض عليه من النعم وحاولت حبسه مرات بعد رجوعه من الحبشة، فآلى على نفسه لئن فعلت ليقتلن كل من تستعين به على حبسه، وإنها لتعلم صدق عزمه فودعته باكية مصرّة على الكفر، وودعها باكياً مصراً على الإيمان، فقالت له وهي تخرجه من بيتها:
إذهب لشأنك، لم أعد لك أماً.
فاقترب منها وقال:
يا أمه إني لك ناصح، وعليك شفوق، فاشهدي بأنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله .
أجابته غاضبة:
قسماً بالثواقب، لا أدخل في دينك، فيزرى برأيي، ويضعف عقلي.
ثم قررت سجنه وهو مع هذا كله كلما ازدادت عليه أمه ضيقاً وشدة ازداد ثباتاً ورسوخاً على دينه وحرصاً على آخرته، ولقد عانى معاناة شديدة وشعر بالأذى يتضاعف عليه يومياً وهو يحرم مما تعود عليه من نعيم .. وأخيراً لم يكن أمامه إلا أن ترك النعمة الوارفة التي كان يعيش فيها مؤثراً الشظف والفاقة، وأصبح الفتى المتأنق المعطر، لا يُرى إلا مرتدياً أخشن الثياب، يأكل يوماً، ويجوع أياماً. ومع هذا الألم المضاعف عليه صبر وصابر وهو يرى نفسه يعذب ويحجر عليه .. وآلامه تتضاعف لأنه عاش حياة الرفاهية والراحة بعيداً عن أسباب الألم والتعب، وهو الشاب الترف الناعم الطري الذي نشأ في أحضان النعمة والعيش الرغيد قبل أن تبدأ مرحلة أخرى تغير فيها الحال وكان أمراً غريباً عليه .. لما تعرض له بعد إيمانه.. لأنه لم يعش حياة الخشونة والأذى لكنه لم يثنه شيء من ذلك عن دينه ..
يقول عنه سعد بن أبي وقاص :