24إنّ الذي يُستنتج من الآية الشريفة: بَوَّأْنٰا لِإِبْرٰاهِيمَ مَكٰانَ الْبَيْتِ 1، ومن الحديث الذي يبيّن سرّ تربيع الكعبة 2، أنّ بناء الكعبة ومكانه وسائر ما يتعلّق بها كان أمراً من جانب الوحي الإلهي، إضافةً إلى ذلك، لم يكن للبشر العاديّين أي حضور حتّى يشارك مهندس أو بنّاء في أمرها، بل كان إبراهيم(ع) هو المتعهّد لذلك بالوحي الإلهي؛ وعليه فالكعبة في تمام أبعادها الفنّية والصناعية، وفي الأدوات، والأرض، والخارطة، مرتبطة بالله ومنزّهة عن غيره، ومبرّأة عن سائر الناس، فهذا البناء المقدّس هو أوّل بناء بُني للبشر بوصفه معبداً 3، ولذلك كان جائزاً لتوسعة المسجد الحرام غصب الأمكنة المجاورة والتي هي في الحقيقة حريم للكعبة، وتخريبها، تماماً كما قال الإمامان الصادق والكاظم، لرفع توهّم غصبية مثل هذا التخريب:
«إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها، وإن كان الناس هم النازلين بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها» 4.
وخلاصة الكلام: إنّ الكعبة لا ترتبط بشخص بعينه أو فريق كذلك، وهي لا تتبع أيّ قانون من القوانين البشريّة المجعولة، وإنّما هي تبلور الإسلام، وذلك:
أوّلاً: أنّها مثل القرآن الكريم والرسول الأكرم(ص) لا تعتمد إلاّ على الله تعالى.
ثانياً: كما أنّ القرآن الكريم كتاب الله وكلامه، وليس نتيجاً فكريّاً لأيّ إنسان، ولا يمكن لأحد أن يأتي بمثله، وكما كان الرسول الأكرم(ص) غير متلمّذ على يد أحد، وليس لأيّ إنسان حقّ التعليم والتزكية عليه، من هنا كان عبد الله ورسوله... كذلك الكعبة - ملكاً وخارطةً وبناءً ومعماريّة و... - متعلّقة بالذات الإلهيّة.
ثالثاً: كما أنّ الله تعالى ضمن حقيقة القرآن من تطاول الطواغيت عليها، وحفظها من سهام التحريف وصانها من ذلك، وكما ثبّت رسالة الرسول الأكرم(ص) بالمعجزات المختلفة، وأبقاها ثابتةً، كذلك صان الكعبة دوماً منجبابرة وأباهرة الماضي والحاضر والمستقبل.
رابعاً: كما يجب على كافّة مسلمي العالم حماية القرآن وحراسته وأن يكونوا جادّين في صيانة الشخصيّة الحقوقيّة للنبيّ الأكرم(ص) ورسالته، كان واجباً عليهم الجهاد لحفظ أمن الحرم وتقديسه.
خامساً: كما أنّ مجرّد عربيّة القرآن أو نزوله في الحجاز ليس دليلاً على اختصاصه بقوم خاصّين ، ومجرّد كون النبيّ الأكرم(ص) قد عاش في الحجاز وتوفّي فيها وكان مزاره الشريف فيها... ليس دليلاً على اختصاص هذا الرجل العظيم بالعرب أو بشعب الحجاز، كذلك مجرّد وقوع بناء الكعبة في الحجاز وتأمين موادّها الخام من تلك الديار ليس سبباً لاختصاصها بالعرب أو بشعب الحجاز أو بدولة تلك البلاد؛ ذلك أنّه حتّى لو كانت الكعبة قد بُنيت من الأحجار ولها جسم ظاهري مثل سائر الأحجار، إلاّ أنّها حيث كانت محاذية لعرش الله، ومبنيّةً جدرانها الأربعة على خارطة التسبيحات الأربع، أي حقيقة التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وكلّها ترجع إلى التوحيد 5، وكانت متحرّرة من كافّة السلطات والقوى الكبرى العتيقة... فإنّه لا مثيل لها ولا نظير.
إنّ تولّي هذا البناء المقدّس القائم على الإخلاص والطهارة إنّما هو في عهدة المسؤولين الصالحين الورعين، فلو كان الإمام المعصوم(ع) ماسكاً بزمام الزعامة والحكومة فإنّ الكعبة تُدار حينئذ تحت الولاية المعصومة لهم، وإلاّ كانت تحت ولاية النائب الخاصّ، وإلاّ فالنائب العام للإمام، وهو الفقيه جامع الشرائط المطلوبة في القيادة، وإذا لم يتوفّر فقيه مدير ومدبّر لتولّي هذا الشأن وصل الدور لعدول المؤمنين.
الكعبة المشرّفة
الموضع المركزي للكعبة
ليس الإنسان من ناحية تجرّد الوجود كالملائكة حتى يستغني عن التنسيق والتعاون مع بني جنسه، كما أنّه ليس مادّياً كالحيوانات حتّى لا يكون محتاجاً لتبادل الرأي والتعاون، كما أنّه - أيضاً - غير قادر أن ينتهي أمره إلى التشتّت والتمزّق والتلاشي اعتماداً على معتمد تكويني، ويفهم سرّ اتّحاده مع أبناء نوعه ورمز ذلك، فيتحرّك عبر سلوك خاصّ ومناسب للوحدة، فيصل بشعار قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا 6 للتحرّر من كلّ عيب ونقص وبلوغ مرتبة الكمال الإنساني.
إنّ الإنسان بحاجة إلى المجتمع، ولا يمكنه من دون التنسيق والتعاون أن يرسم الخطوط الأساسيّة والمعالم الكبرى لسعادته؛ من هنا كان لزاماً عليه الاتّحاد مع أبناء نوعه، كما يلزمه أن يجعل ارتباطه بالآخرين قائماً على محاور عينيّة وتكوينيّة، يكون لها حظّ من الخلود والأبدية.
للإنسان في ذاته وأعماقه مادّة السعادة الحقيقيّة من كافّة الجوانب، والوحدة الشاملة مع مختلف المجتمعات البشرية، بوصف هذه المادّة الكامنة في أعماقه أصلاً ثابتاً وعامّاً ودائماً ذا جهة واحدة، بحيث لا يوجد أيّ فرد إنساني في أيّ عصر وزمان وفي أيّ موضع ومكان خالياً عن هذا الأصل الكامن في داخله؛ إنّه المادّة الرئيسة للتكامل التكويني، إنّه لغة الفطرة التوحيديّة 7 التي يمكنها الربط بين أبناء البشر دون حاجة إلى أيّ اعتبار أو تعاقد أو تصويب، وكلّ ارتباط وعلاقة لا تنسجم مع الجذر التوحيدي للبشر فهو زائل اعتباري لا قرار له.
وعلى هذا الأساس، فالإنسان - في منطق الوحي - ينسجم فقط مع الإسلام العالمي الإلهي، فهذا الدِّين هو الذي يجعل الجميع منسجمين، موحِّدين، متناغمين، مترافقين، ويوصلهم إلى كمالهم النهائي.
من هنا اعتبر الله سبحانه الإسلام ديناً عالميّاً، ودعا العالمين إلى قبوله، وبيّن معالمه الأصيلة العامّة والدائمة والشاملة لتمام الجهات والنواحي، محذّراً من الانفصال عنه، ومعلناً خطر الإعراض عنه أو الاعتراض عليه أو معارضته، إنّه يقول: وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً وَ لاٰ تَفَرَّقُوا