11حتى علا الصياح: «يا معشر الأوس أحسنوا ولا تهلكوا إخوانكم، فجوارهم خير من جوار الثعالب: أياليهود. .» إلا أن غضب الأوس لم يهدأ حتّى أضرموا النّار اللاهبة في دور الخزرجيين ونخيلهم. . إنها أيّام عصيبة وحروب رهيبة قد كادت تفني القبيلتين وتهلك الحيين ولم يشفع أنهما ينتميان لأب واحد وأم واحدة، ولم تقف الحرب وتنته بل ظلت سجالاً فما أن تضع واحدة أوزارها حتى تبدأ أخرى أشد منها عنفاً وضراوة ونزفاً. .
وأما المستوى الاقتصادي، فوضعهم فيه ليس بأقل سوءاً من أوضاعهم السابقة؛ فقد تأثر بأحوالهم الاجتماعية والأخلاقية والسياسية. . وبانعدام الثقة والأمن والسلامة الاقتصادية والوعي بالأحكام والقوانين. . ولأنهم كانوا أبعد الأمم عن ذلك وعن نواحي التنمية كالصناعة لغلبة البداوة عليهم، وعن الزراعة وإن وجد شيء منها في بعض الأماكن عندهم وراجت التجارة في الأشهر الحرم، إلا أن الحروب الطاحنة والإغارات المستمرة وما يستتبعها من السلب والنهب كانت تلقي بظلالها القاتلة على أيّ مظهر من مظاهر التنمية. . فساد الاستغلال والتسلط ثم الفقر والجوع والعوز والتخلف الاقتصادي. .
كل هذا وغيره مظاهر تنخر في بنية مجتمع الحجاز وكيانهم وتسيء إليهم حتى غدوا في الحضيض الأسفل من الضعف والعماية والتخلف. . هذا أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً.
وأما سياسياً فلا شك في تبعية الوضع السياسي لوضعهم الاجتماعي الرديء والأخلاقي الوضيع والاقتصادي الظالم، إلا أنهم كانوا يتمتعون بشيء من الاستقلال النسبي إذا ما قيست حياتهم السياسية بما عليه جيرانهم والمتاخمون لدول كبيرة تحيطهم، التي كانت حياتهم أقرب للعبودية لغيرهم بل العبودية بعينها غالباً، فقد حكم الفرس العراق، وغلبت الروم على بلاد الشام، والأحباش على اليمن. . وعاشت هذه البلدان انحطاطاً مقيتاً، ومورست مع أهلها ألوان مختلفة من الظلم والاستبداد والقهر والإذلال، لأن هذه الدول الكبرى المتسلطة يومذاك