178فيها من أرضٍ خصبة وينابيع ثرّة ، وقد كان سكانها - وخاصة اليهود - في حاجة إلى الأيدي العاملة لاستثمار الأراضي ، فسمحوا لهم بالنزول قريباً منهم بين الحرّة الشرقية وقباء ، وكانت ظروف عملهم أول الأمر قاسيةً ، وبمرور الزمن تحسنت أحوالهم ، فبدأ اليهود يخافون من منافستهم ، فتداعى عقلاء الطرفين إلى عقد حلف ومعاهدة يلتزمان فيها بالسلام والتعايش والدفاع عن يثرب إزاء الغزاة ، فتحالفوا على ذلك والتزموا به مدة من الزمن ، ازداد خلالها عدد الأوس والخزرج ونمت ثرواتهم ، ففسخ اليهود الحلف ، وقتلوا عدداً منهم وعملوا على إذلالهم .
وبقي الأوس والخزرج على تلك الحال إلى أن ظهر فيهم مالك بن العجلان الذي استنجد بأبناء عمومته الغساسنة في الشام ، فاستجابوا له وأرسلوا جيشاً كسر شوكة اليهود فعادوا إلى الوفاق ، وعاشوا فترةً أخرى حياة متوازنة ، فعندما هاجم تبع بن حسان(يثرب)، وأراد تخريبها وقف الجميع في وجهه حتى رجع عن قصده وصالحهم ، وفي هذه المرحلة من الوفاق تحرك أبناء الأوس والخزرج خارج الحزام الذي كانوا محتبسين فيه وبنوا المنازل والآطام في سائر أنحاء(يثرب)، وتوسعوا في المزارع ، وصار لكل بطن من بطونهم مواقع كثيرة ، حينئذ خطط اليهود لاستعادة سلطتهم عليهم بطريقة جديدة ، ترتكز على التفريق بينهم وضرب بعضهم ببعض ، فأعادوا التحالف معهم ، وجعلوا كل قبيلة منهم تحالف واحدة من القبيلتين الأوس والخزرج ؛ تمهيداً لإيقاع الفتنة بينهم ، فتحالف بنو النضير وبنو قريظة مع الأوسيين ، وتحالف بنو قينقاع مع الخزرجيين ، وبدأت كل فئة يهودية تسعر النار في حليفتها على الطرف الآخر وتذكي العداوة والشقاق بينهما .
وما إن نجحت الخطة الماكرة حتى نشبت المعارك بين قبيلتي الأوس والخزرج ، واشتعلت الحروب الطاحنة بينهما ، ودامت قرابة مائة وعشرين عاماً ، وكانت بدايتها بحرب سمير ، ونهايتها بحرب بعاث ، قبل الهجرة بخمس سنوات ، وما بين هاتين المعركتين نشبت أكثر من عشرة حروب ، وكان لليهود - كما ذكرنا -