290إن الإجراء القلبي هو الذي يذهل العابد عن رونق الأصوات الأخرىٰ .
ولكن تبدو مناسك الحج عالية القدر إذ يطرق الحاج بها أكثر من مرة ومرة أبواب المناسك وهي كالصوت المكتوم .
لقد وضع الخليل إبراهيم كل هذه الأفعال في موضعها السليم ؛ لأنه كان عليه السلام كياناً فريداً ، تحتشد فيه حزمة نوايا ، وتتدلىٰ في إهابه سنابل العزائم ، وتتلاقح فيه إظمامة الطموحات ، فاستحق أن ينتدب موصلاً نبوياً لرسالة الحج ، وأن يؤسس وينشأ ما يفترض أن يكون . لقاؤه العضوي مع ولده إسماعيل حين التفكير ببناء القواعد كان لقاءاً على شكل ولادة كبرىٰ وحدثاً غيّر مجرى الأحداث فيما بعد . لم تكن العفوية خارجة عن إرادته وقراره عليه السلام إنما تكيّفت بضوء منبهٍ إلهيٍّ (أمر) . لا توجد في مسيرة الخليل عليه السلام حلقة فارغة يمكن أن تنداح من خلالها العفوية . . كل حركاته . . تأملاته . . أشواقه هادفة منتجة ، وكانت أخصب مرحلة في حياته تلك التي جاءت بعد شوط الاحتجاج والدعوة الفكرية ، وهذه الفترة تكللت ببناء القواعد والكعبة وتثبيت المقام .
تقول الرواية عن ابن عباس رضى الله عنه : «جاء إبراهيم فوجد إسماعيل يصلح نبلاً له من وراء زمزم ، فقال له : يا إسماعيل إنّ ربّك قد أمرني أن أبني له بيتاً ، فقال إسماعيل : فطعْ ربك فيما أمر ، فقال إبراهيم : قد أمرك أن تعينني عليه . قال : إذن ، افعل . فقام معه - فجعل إبراهيم يبنيه وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان : [رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ] 1 ، فلما ارتفع البنيان ، وضعف عن رفع الحجارة قام على حجر - وهو مقام إبراهيم - فجعل يبني وإسماعيل يناوله فلما فرغ أمره اللّٰه أن يؤذن في الناس بالحج . .» 2 .
ومع التأمّل في الرواية يتضح أن الأمر الإلهي كان مصدر ثقافة الحج . . . وأن