216
يغزون الناس ولا يُغزون، ويَسبون من البلدان الأخرى ولا يُسبون، وقد ثبت أنه لم تُسب قرشية قط، كما ثبت أن مكة لم تَدِن لدين الملوك، ولم يُؤد أهلها الجزية، ولم يملكها ملك قط من خارجها، بل إن الملوك، والجبابرة، يحجون إليها، ويعظمونها، كملوك: حِمْير، وغسَّان، ولَخم، إذ يخضعون، ويَذلون عند قدومهم لمكة، فيدينون لقريش، ويرون تعظيمهم، والاقتداء بآثارهم فرضاً واجباً، وشرفاً كبيراً.
وقد أشاد الشعراء القدامى بهذه المكانة العظيمة، وذلك الشرف الرفيع، كقول أحدهم:
أبْوا ديِن الملوك فهم لَقَاح
إذا هِيجُوا إلي أجابوا
وقول آخر:
ولقد غزاها تُبَّع
وبلغ من تعظيم العرب لمكة قبل الإسلام: أن الرجل منهم كان يحج البيت ويعتمر، ويطوف، فإذا أراد الانصراف عنها إلى بلده، أخذ حجراً من حجارة الحرم، فنحته على صورة صنم من أصنام البيت، فيحتفي به في طريقه، ثم ينصبه في أحسن بقعة في بيته، ويجعله قِبلة له ولأسرته، يطوفون حوله، ويتمسحون به، ويصلون له، تشبيهاً له بأصنام الكعبة، وبمرور الزمن اعتادوا ذلك وفشا فيهم، بل صاروا يأخذون معهم حجارة البيت دون نحت، يعبدونها ويقدسونها، ثم فشت فيهم الأصنام، وتعددت وتنوعت منذ أن أحضر عمرو بن لُحى الصنم (هُبَل) من العماليق بأرض الشام 2.
وقد كثر تناول الشعراء لظاهرة الأصنام هذه بين مادح وقادح.