204
المحاصرة، فليسَ المقصودُ إلّاالإبداع و التضمير، و ظهور الإمكان بالتمكين، فمخاطبة المدينة بالمسكينة، ليسَ واقعاً على جهة الاحتقار، كما هو المتعارف في الافتخار، لكن فيه إشارة إلى التواضع المطلوب، و ما أحلاه في المحبوب، و قد قيل: هو من جملة أسمائها، و التواضعُ رَفْعُ الشَّرف على أرجائها، و قول مكّة للمدينة: «يعنى ما وَصَلكِ إلّاما فَضُل عَنّي» ، يريدُ ما ظَهر فضله عن نسبته إلى مكاني، و خيرٌ لما تُدْلِين به إلى ذلك دعاني، ألاترى إلى قولها: «و إنْ فَخَرتِ بحلول الشفيع، ففيّ كان مسقطُ رأسه الرَّفيع» ، و لا غَيْب فيما أردتِ ممّا لا يعني به المخاطب خصوصاً، بل هو الحكاية بقاعدةٍ أو حديثٍ أسند منصوصاً، أو ذاك مستعملٌ و هو على الألسنة يدور، فلا حرج في إيرادٍ، ربّما ذم الفخور، و المتشيّع بما لم يؤت كلابس ثوبي زور، و ما يذكر من التفاخر بعد ذلك لعلّه بين أهل البلدين، و بذلك تزول الشبهة الدين.
«فأخرجتِيه و آويتُه، و خذلتِيه و نصرتُه، و عققتِيه و بررتُه» ، يدلّ على ذلك، و يتّضح به المسالك.
و أحسنُ سبيلٍ يوضّح على ذلك الدليل، ما جاء في التنزيل، في كلام ربّنا الجليل، فاسمعه و كفّ عن المؤاخذة الّتي لذلك أحوجتك، إذ قال اللّٰه تعالى:
[ وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ 1، ]
و لذلك أعاد
الضمير لأهلها، الذين أضلّ أعمالهم، بقوله: [ أَهْلَكْنٰاهُمْ فَلاٰ نٰاصِرَ لَهُمْ ].
و ممّا يُحقِّق هذا المقصود و يوضّحه و يظهره و يُصحّحه، قول مكّة لمّا التفتت إلى صاحبتها التفات الأسد الخادر، و أتتْ من مفاخرها بالأوّل و الآخر:
«لأُجردنّ مِنْ مفاخرتي إليك جيشاً مالك به يدان، و لألقيّن أنصاركِ بكلّ هاشمي خؤلته بني عبدالمدان» .
ليس بغريب بين أهل الحجاز، استعمال الاستعارة و الكناية و المجاز، و لا تطريز نسج هذا المنوال، بيسير ما انطوى عليه مِنْ ضرب الأمثال، فنقول لمن يعمّ