186
حَلّ بهذه الرقعة من الأرض، واستقرّ بها وبنى فيها داره، وجاهد - منطلقاً منها - الكفار والمشركين، وثبّت أركان الإيمان في جزيرة العرب، مع نفرٍ قليل من صحابته الكرام، وعلى رأسهم ابن عمّه وصهره، وأوّل مَنْ آمن به عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ينتابه الفخر والسرور والفرح لهذا الجِدّ والعزم الّذي لولاهما لكان العالم لازال غارقاً في جهالات الجاهلية الجهلاء، إذ بنوره وبهديه اهتدينا، وبأحكام شرعه الشريف على الصراط المستقيم سرنا.
لكن حينما يلاحظ ما حلّ بشريعته وبوصيته وبقرابته من أهل بيته، من غصب حقوقهم، وإبعادهم عن المناصب التي نصَّبهم اللّٰه فيها، ومن نكرانهم لأجر الرسالة الوارد في قوله تعالى:
«قُلْ لاٰ أَسألُكُم أجراً إلّاالمَوَدّة في الْقُرْبى»
، وإمعانهم في الضرب والقتل والتشريد، وما إلى ذلك من المصائب التي أوردوها على آل الرسول صلى الله عليه و آله، يغمُره الحزن والأسى. ومن هذا المنطلق شاع في فترة (ولعلها القرنين الثامن والتاسع للهجرة) هذا النمط من الرسائل، التي يتخيّل كاتبها إنسيّة هاتين المدينتين، فيأتي بالحجج والأدلة عن لسان كلّ واحدة منهما، فترى المدينتان المقدستان تتفاخران بما منحهما اللّٰه سبحانه وتعالى من المحاسن والمفاخر، وتتبارزان بما أودع فيهما من المآثر والمناقب، فكلّ مدينة ترى نفسها هي السَّباقة في كسب المعالي من اُختها، وأولى بالمدح من ضرّتها، وأجدر بأن تكون ممدوحة من نظيرتها، وفي سبيل بلوغ ذلك تبرز كلّ واحدة منهما ما في خزانتها من الآيات الكريمة، والمأثورات النبويّة الشريفة الواردة في حقّها، هذا فضلاً عن دلالات السيرة والتاريخ، ولا تكتفي بهذه الأدلة، بل تتمسك بشتى الوسائل لإقناع خصمها، وأخذ الإقرار منها على نفسها.
وتشتدّ المنازلة، ويحتدم الصراع، فترى الأدلة المبرزة تسقط وتدحض حينما تبرز الأخرى أدلتها، لكن سرعان ما تقيم الاُخرى دليلاً آخر على صدق دعواها، وهكذا دواليك، حتى أنّ القارىء ليظنّ أنّ الصراع والنزال لا ينتهيان، إلّاحين