23بكلّ ما فيها من مشقّة؟ ! تحملها وهو راع للغنم، ثم وهو عابد متهجد في كهفٍ ناءٍ، ثم حين هبط عليه الوحي وحمّله أمانة الرسالة، وبدأ التطواف المضني وسط القبائل يدعو قلوباً قد أصابها صمم، ثم عندما عانىٰ من الحصار ومن الأذى اليومي ومن مرارة الترمل بعد موت زوجته السيدة خديجة، وإرغامه على الهجرة من الأرض التي شهدت طفولته وجلّ شبابه وتأبّت عليه حين قارب على الشيخوخة، ثم كانت رحلة الهجرة الطويلة علىٰ أرض رمضاء، وتحت شمس حارقة، إنّ شعائر الحجّ هي بصورة أو بأُخرى اختصار رمزي لوقائع هذه السيرة، فهي لا تدور فقط في نفس الأماكن ولكنّها تجسد الكثير من أحداثها.
زحام مكّة لا يشبه أي زحام، آلاف الوجوه من مختلف الأعراق والأجناس، اتساع رقعة العالم الإسلامي وتنوعه تتجلّىٰ في هذا المكان، يتّسع لهم جميعاً هذا الوادي الضيّق، ويضمهم جميعاً وهم يؤدّون نفس الشعائر في الوقت ذاته وفق معجزة ما، أحد الأسرار الخفيّة لهذا المكان، مهما كان الزحام كثيفاً فإنّك تجد دائماً موطئاً لقدميك، وبقعة من الثرىٰ تضع عليها جبهتك، تدخل بنا السيارة من نفق «كدي» وهو جزء من مشروع طموح للتغلّب على المشكلات التي يواجهها انتقال الحجيج في كلّ عام، والتي تأخذ أحياناً طابع المأساة، لقد كان هذا النفق واحداً من عدّة أنفاق تخترق الجبال التي تحيط بأم القرىٰ، وهي لفرط حداثتها لا يعرف طرقها من يغيب عن مكّة فترة من الزمن، النفق