109وإنّي منذ ثلاثين حجّة أنظرُ في حال طوائف المسلمين، محقّيهم ومبطليهم، فلم أجد أحداً يعظّم كتاباً، أو نبيّاً، أو مكاناً، أو عبداً صالحاً من غير قصد قربة من اللّٰه، أو انتسابه إليه، فقد ظهر أنّ هذا كلّه من باب طاعة اللّٰه وتعظيمه.
وأمّا عبدة الأصنام والعباد الصالحين، فإنّما أرادوا عبادتهم حقّ العبادة، كأنْ يُصلّوا لهم، ويصوموا، ويكون ذلك لاستحقاقهم بربوبيّتهم في أنفسهم، أو للتقريب زلفى، فهي عبادة حقيقيّة على الوجهين.
وعلى كلّ من الاحتمالين على أنّي ذكرتُ مكرّراً أنّهم عاندوا الرُّسل، وكذّبوهم، واستهزؤا بهم، وقالوا أيضاً: لا طاقة لنا بعبادة اللّٰه، وإنّما نعبد الأصنام لأنَّ عبادتهم مقدورة لنا، وهم يقرّبونا إلى اللّٰه زلفى، ولقد نقلتُ روايةً مشتملةً على ذلك المعنى في مقام آخر، فالفرق بين الأمرين أوضح ممّا يُرى رأي العين.
فبحقّ مَنْ شقَّ لك السمع والبصر، وسلَّطك على طوائف من الأعراب والحضر، أنْ توجِّه ذهنك الوقّاد، وفكرَك النقّاد، صافياً عن ملاحظة العصبية والعناد، وتجعل مناظرتنا كأنّها حين حلولنا في المقابر، وانصرافنا عن مرارة الدُّنيا، طالبين للنعيم الفاخر، وحضورنا يوم فصل القضاء بين يدي جبّار الأرض والسماء، وكأنّ الملائكة بيننا شهود، وقد حضرنا في اليوم الموعود، وقد فارقنا الأموال والأولاد، وانقطعنا إلى ربّ العباد.
اللّهُمَّ اجمعْ بيننا بالحقّ، واعصمنا عن الميل إلى رضا الخَلْق.
الباب الرابع: في بناء قبور الأنبياء والأولياء وتعميرها وتعلية بنائها وتشييد أركانها
لا يخفى على مَنْ أمعنَ النظر، وتتبَّع الآثار والسير، أنّ الأزمنة مختلفة الأحوال بالنسبة إلى جميع الأقوال والأفعال، فرُبَّ شيءٍ كان في قديم الزمان في أعلى مراتب الاستحسان، فانعكس وصار أدنى ما يكون أو كان.
وحيث إنّ الشارع حكيم، وبالعباد رحيم، يراعي أحوالهم، ففي مبدأ