200أن يشرع لأرض مكّة حكم الحرمة والأمن، وهو - علىٰ خلاف ما ربّما يتوهم - من أعظم النعم التي أنعم اللّٰه بها علىٰ عباده، فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم عليه السلام بإذن ربّه أعني حكم الحرمة والأمن وأمعنا فيما يعتقده الناس من تقدير هذا البيت العتيق وما أحاط به من حرم اللّٰه الآمن، وقد ركّز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصىٰ من الخيرات والبركات الدينية والدنيوية عائدة إليها وإلى سائر أهل الحقّ ممن يحنّ إليهم ويتعلّق قلبه بهم، وقد ضبط التأريخ من ذلك شيئاً كثيراً وما لم يضبط أكثر، فجعل تعالىٰ مكّة بلداً آمناً وهي من النعم العظيمة التي أنعم اللّٰه بها علىٰ عباده 1.
أقول: وهذا الفهم للأمن ممّا تعارف عليه الناس قديماً وكان مرتكزاً في أذهانهم فقد حدّثتنا المصادر التأريخيّة أنّ (أبو طاهر القرمطي) ضرب الحجر الأسود بفأس كانت بيده في محاولة منه لقلعه، فانكسر الحجر، ثمّ التفت إلىٰ جموع النّاس قائلاً لهم: أيّها الجهلة! أنتم تقولون: إنّ كلّ من يرد البيت فهو آمن، وقد رأيتم ما فعلتُ أنا إلى الآن، فتقدّم إليه رجل من الحاضرين ممن كان قد هيّأ نفسه للموت، فأمسك بلجام حصان أبو طاهر وأجابه قائلاً: إنّ معنىٰ ذلك ليس كما قلتَ بل إنّ المعنىٰ هو أن من يدخل هذا البيت فعليكم منحه الأمان علىٰ نفسه وماله وعرضه حتّىٰ يخرج منه ، فامتعض القرمطي وتحرّك بحصانه دون أن ينبسّ ببنت شفة 2.
هذا وقد اعترض بعض علىٰ نظرية الأمن للسيد الطباطبائي قائلاً: إن الاقتطاف أمر تكوينيٌّ ولذا فإن الأمن مقابل ذلك يعدّ أمناً تكوينياً. . وجاء بأدلته التي لا أظنها تنهض لتأييد مدعاه مؤجلاً مناقشتها إلىٰ كتابنا حول نظرية أمن الحرم إن شاء اللّٰه تعالى.
وإن تعجب فعجب قول القائل: . . ولابدّ من الالتفات إلىٰ هذه النقطة، وهي أن استجابة اللّٰه لدعاء إبراهيم بخصوص أمن مكّة له جهتان: فمن جهة منحها أمناً