25الجبال، توحّشاً من الخلق، وطلباً للأُنس بالخالق، وأعرضوا عن جميع ما سواه، ولذلك مدحهم بقوله: « ذَلِكَ بِأَنّ مِنْهُمْ قِسّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ» 1.
فلمّا اندرس ذلك، وأقبل الخلق على اتّباع الشهوات، والإقبال على الدنيا، والالتفات عن اللّٰه، بعث نبيّه صلى الله عليه و آله و سلم، لإحياء طريق الآخرة، وتجديد سنة المرسلين في سلوكها، فسأله أهل الملل عن الرهبانيّة والسياحة في دينه، فقال:
«أبدلنا بها الجهاد والتكبير علىٰ كلّ شرف» يعني: الحج، وسئل عن السائحين، فقال: «هم الصائمون» ، فجعل سبحانه الحجّ رهباينة لهذه الأمّة.
فشرّف البيت العتيق بإضافته إلىٰ نفسه، ونصبه مقصداً لعباده، وجعل ما حوله حرماً لبيته، تفخيماً لأمره، وتعظيماً لشأنه، وجعل عرفات كالميدان علىٰ باب حرمه، وأكّد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره، ووضعه علىٰ مثال حضرة الملوك، يقصده الزوّار من كلّ فجّ عميق، شعثاً غبراً، متواضعين لربّ البيت، مستكينين له خضوعاً بجلاله واستكانةً لعزّته، مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحومه مكان، ليكون ذلك أبلغ في رقّهم وعبوديّتهم.
ولذلك وظّف عليهم فيها أعمالاً لا تأنس بها النفوس، ولا تهتدي إلىٰ معانيها العقول، كرمي الجمار بالأحجار، والتردّد بين الصفا والمروة علىٰ سبيل التكرار.
وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرقّ والعبودية، بخلاف سائر العبادات، كالزكاة التي هي إنفاق في وجه معلوم وللعقل إليه ميل، والصوم الذي هو كسر للشهوة التي هي عدوّ للّٰهوتفرغ للعبادة بالكفّ عن الشواغل، وكالركوع والسجود في الصلاة الّذي هو تواضع للّٰهسبحانه بأفعال علىٰ هيئات التواضع وللنفوس أنسٌ بتعظيم اللّٰه تعالىٰ.