30إن المسلمين المتّجهين إلى بيت اللّٰه ينقطعون عن بيئتهم، ويهجرون الأهل والأحباب، ويتركون ما كانوا يألفونه كل يوم من سكن وعمل رتيب، ويهاجرون أوطانهم نحو بيت اللّٰه الحرام، وقبل أن يدخلوه، عليهم أن يتجرّدوا من ثيابهم وينزعوا من نفوسهم وأبدانهم كل مفاخرهم ورواسبهم وامتيازاتهم، ويتّجهوا بشكل واحد وبخطىً متّحدة نحو مكّة المكرّمة ليكونوا على صعيد بيت اللّٰه الحرام أشبه بالمبعوثين في عالم المحشر.
وفي هذا الجو المتحرّر من الذّات والذّاتية، ومن الأنا والأنانية يعيش الإنسان - بطبيعة الحال - هموم أمّته أكثر من ذي قبل، ويفكّر بشؤون المسلمين وما يحيط بهم من مشاكل، ويزداد اهتمامه بالأمور العامّة بعد أن كانت الهموم الخاصّة تشغله وهو بين أهله ومتاعه.
ثمّ إن أرض مكّة طافحة بالذكريات التي تستحث المسلم أن يراجع أحداثها، ويدرس وضعه ووضع المسلمين على ضوئها، فهي أرض التوحيد وإخلاص العبوديّة للّٰه، وأرض تحطيم الأصنام ومقارعة الوثنيّة والشّرك. وكل هذه الظواهر القائمة على أرض مكّة المقدّسة تدفع بالحاج لأن يفكّر في الأصنام البشرية وغير البشريّة المنتصبة على ظهر الأرض، وفي الآلهة المزيّفة التي تحثّ الناس على أن يعبدوها من دون اللّٰه. ذكريات هذه الأرض تعيد إلى الأذهان ذلّ الكفر حين ظهر الإسلام وعلّم أبناءه قائلاً:
«. . . ولن يجعل اللّٰه للكافرين على المؤمنين سبيلاً» 1. وحين علّمهم أنّ العبادة - وخاصة عبادة الحجِّ - لا تنفصل عن الجهاد: قال صلى الله عليه و آله و سلم: « الحجّ جهاد، والعمرة تطوّع» 2. وقال أيضاً: « نعم الجهاد الحجّ» 3. أين هذه التعاليم السّامية الحركية من وضعنا الرّاهن اليوم، حيث الجمود والخمود والذّل والاستكانة، وحيث الأعداء يفترسون أشلاء جسد أمتنا الإسلامية من كل حدب وصوب، وحيث أفرغت العبادات من كل محتوى وتحوّلت إلى طقوس خالية من كل روح؟
أين هذه التعاليم من هذه الفتاوى التي يصدرها بعض الفقهاء داعية المسلمين إلى الكفّ عن إدانة أعداء اللّٰه في موسم الحجِّ ومعلنة حرمة هذا العمل؟
وعلى هذا لا نجد مبرراً أن تصدر فتاوى لا تنسجم إطلاقاً مع روح الحجّ، ولا يستفيد منها إلا منتهكو أعراض المسلمين ومقدساتهم. وعلى المسلمين اليوم أن ينصاعوا لقوله تعالى: «ولا تَتبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل وأضلّوا كثيراً وضلّوا عن سواء السّبيل» 4.
وعليهم أن يصيغوا السّمع لنداء اللّٰه سبحانه ويحوّلوا الحج كما كان في عهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله و سلم منطلق البراءة من المشركين: «وأذان من اللّٰه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر أنّ اللّٰه بريء من المشركين ورسولُه. . .» 5.
عليهم أن يفهموا أن منطلق البراءة من المشركين لا يجوز تحويله إلى خمود وخنوع، ولا يجوز إفراغه من محتواه الحركي النّاهض، بل يجب أن يكون في عصرنا هذا منطلق الصّرخة الّتي ترهب أعداء اللّٰه، ومنطلق العزّة التي تعيد الرّفعة لدين اللّٰه، ومنطلق الحركة نحو استعادة العزّة التي شاءها اللّٰه - تعالى - لنا.
نسأل اللّٰه - سبحانه وتعالى - أن يمنّ على أمّتنا الإسلاميّة باليقظة والصحوة، وبالعودة إلى إسلامنا الحقيقي لنعود أمّة واحدة « شاهدة» على ساحة التأريخ و « وسطاً» بين شعوب العالم.
الهوامش: