18هي وجوه التقرب إلى اللّٰه تعالى، بما يمثّل عبودية الإنسان من قول وفعل، وترك لذائذ الحياة وشواغل العيش، كما جاء في تفسير الميزان. وثمرته واضحة وهي محو الذنوب، وغفران السيئات، وتحقيق المساواة بين العباد، فلا تفاضل بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، كما في قوله تعالى: «إن أكرمكم عند اللّٰه أتقاكم إن اللّٰه عليم خبير» 1.
إن مناسك الحجّ ترشد إلىٰ معانٍ كثيرة، لا يصح لحاج تخطيها دون تأمل وإدراك، وإمعان النظر فيها؛ لأن فهم الحكمة التشريعية منها تزيد النفس متعة، وتبعث لأداء التكاليف الشرعية والطاعات الإلهية، وتحقق مغزى الحجّ على النهج الرباني المقصود به خير الإنسان وإسعاده.
فالإحرام والتجرّد من لباس الرجال - ما عدا ستر العورات بملابس الإحرام المعروفة - يقمع شهوات النفس والأهواء، ويبعد الناس عن التفكير في الدنيا، ويوجه الإنسان إلى الخالق والتفكير بقدسيته وعظمته وجلاله، ويؤدي إلىٰ سمو الروح، وترقي الوجدانات والضمائر، وإظهار الخضوع والتواضع للّٰهتعالى، والبعد عن شوائب الكبرياء والغرور، وعلاج أمراض النفس من حبّ الاستعلاء ومزامنة الحقد والشحناء، وإخلاص العمل للّٰهجلّ جلاله، وبغير الإخلاص للّٰهالذي هو جوهر الدين لا قيمة لأيعمل، ولا فضل لأيمسلم في عبادة ومعاملة وخلق وغير ذلك. ومن أهم مقومات الإخلاص: التسامح مع المسلمين، وتطهير النفوس من البغضاء والأحقاد والخصومات لهم، سواء المعاصرون أم الغابرون، عملاً بقول اللّٰه - تبارك وتعالى -: «والذين جاءُوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا، ربنا إنك رؤوف رحيم» 2.
ونشيد التلبية الذي يردّده الحجّاج، بدءاً من الإحرام حتى صباح يوم العيد برجم جمرة العقبة الكبرى شاهد حي، وواقع ملموس على صدق التوجه إلى اللّٰه تعالى، والترفع عن أوضار (أوساخ) الدنيا وشهواتها، والتذكير الدائم بطاعة اللّٰه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
والحضور إلىٰ بيت اللّٰه الحرام لزيارته يحقّق منافع الدنيا والآخرة؛ لأن شهود الكعبة المشرفة إرواء لتعلق القلوب المتلهفة لها، والإنسان مجبول على حبّ النفع.
والطواف حول البيت الحرام يؤكّد وحدة المسلمين العامة، ودليل على التشبه بملائكة الرحمن الحافين حول العرش، وتصعيد الروح نحو العلو الإلهي، وعروج إلىٰ ملكوت اللّٰه بالقلب والفكر، وتذكير دائم بصاحب البيت وهو اللّٰه جلّ وعلا، وتجديد العهد مع اللّٰه على الإقرار بربوبيته ووحدانيته، بدءاً من نقطة الانطلاق في الطواف بالحجر الأسود أو الأسعد؛ ليكون قرينة أو أمارة على وحدة العمل بين الناس، وطريقاً لإنفاذ عهد اللّٰه على الحقّ والعدل والخير والتوحيد والفضيلة. وهذا العهد الإلهي القديم أشار إليه القرآن المجيد في قوله تعالى: «وإذ أخذ ربّك من بني آدم من ظهورهم ذريَتهم وأشهدهم على أنفسهم، ألستُ بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين» 3.
والسعي بين الصفا والمروة تردد في معالم الرحمة الإلهية، والتماس للمغفرة والرضا الرباني، وتلمس لأفضال اللّٰه وخيراته، وطلب عونه لتحمل مشاق الحياة، كما فعلت السيدة هاجر زوج إبراهيم الخليل عليه السلام حين أعوزها الماء، فقامت تسعى ضارعة إلى اللّٰه - تعالى - لإرواء ظمئها، وسدّ حاجة ابنها إسماعيل عليه السلام، قال اللّٰه تعالى: «إن الصفا والمروة من شعائر اللّٰه فمن حجّ البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما ومَن تطوع خيراً فإن اللّٰه شاكر عليم» 4.