151في بدء دعوة الإسلام كانت منطقة الحجاز مقسّمة قسمة عجيبة، بين نفوذ العرب ونفوذ اليهود وسيطرتهم، ففي بدء بعثة النبيّ محمد صلى الله عليه و آله و سلم كانت قوة اليهود الاقتصادية والسياسية كبيرة ومزعجة في شمال الحجاز، حيث بلغت قوتهم فيه قوة قريش في جنوبه، التي امتد نفوذها من منطقة يثرب (المدينة) حتى الطائف، فيما راح نفوذ اليهود يمتدّ في شمال الحجاز الىٰ حدٍّ يمكن معه القول: إنّ هذا النفوذ كان يمتد من المدينة حتى تيماء في أقصى حدود الحجاز الشمالية، ملتقياً بحدود سوريا لمسافة تقدر الآن بحوالي 450 كم.
لذا فإن نفوذ اليهود الاقتصادي إبّان عصر البعثة يشكل أسس حركة السيطرة اليهودية، التي كان يمكن أن تصعد وتتّسع، فقد كانت أوضاع توزيع الوجود اليهودي في شمال الحجاز في منتهى الدقة، والحرص على نيات التوسع والسيطرة.
وذلك أن يهود (بني قينقاع) الذين ورد ذكرهم في رواية ابن خلدون كانوا يقيمون في منطقة يثرب (المدينة) ، وكانت معهم قبائل (بني عوف) و (بني النجار) وتقيم حولها قبائل (الأوس والخزرج) وتنزل في المناطق الزراعية التي كانت تهتم بها.
و (بنو قريظة) كانوا ينزلون في ضاحية يثرب (المدينة) من جهة الجنوب الشرقي، وبنو النضير كانوا ينزلون في ضاحية يثرب (المدينة) من جهة الغرب.
أما منطقة (خيبر) ففيها أعظم مركز لتجمع اليهود في شمالِ الحجاز، وتقع ما بين المدينة ومنطقة تيماء الملاصقة لأقصى حدود الشمال عن سوريا 1.
وكان هذا التوزيع لمراكز القوة اليهودية يكفل لليهود - وقتها - القدرة على الانتشار، ووضع أيديهم على مساحة كبيرة من الأرض، يعملون على استغلالها واستثمارها، والقيام بتحصين أماكن تجمعهم، وامدادها بالقوة العسكريّة، وتخزين كميات من السلاح، وإعداد مجموعات منهم للقتال، بغية الحفاظ على ما اكتسبوه، حتى يمكن لهم دوام السيطرة والبقاء.
ولكن ما إن أحسّ اليهود أنّ القرشيّين أخذوا يباشرون أسلوب عمل في النظام الجديد، المرتبط بعقيدة الإسلام وآدابه وتعاليمه، حتى أدركوا تماماً أن هذه البداية الدينية بما تقرره، وتصنعه من إعداد قوة بشرية ودينية، تصطدم مع واقع الوجود اليهودي في الأرض العربية، وآماله ومصالحه. وما لبثوا أن أعلنوها حرباً قاسية ومريرة ضد الرسول الأكرم، والإسلام والمسلمين.
ولم تفتر حدة الردّ إلّابعد أن تمكّن المسلمون من تصفية مراكز القوى وإنهاء مواقع التجمّع اليهودي في أرض الإسلام، وأبقوا عليهم أفراداً وجماعات دون أن يتركوهم يشكّلون خطراً يُعين الجماعات الطامعة المتوسعة.
وكان الأمل كبيراً في قلوب المسلمين أن تسير العلاقة بين اليهود والمسلمين سيرة حسنة، وأن يتعاون الطرفان إلا أنّ العداوة والمضايقة والتربّص من جانب اليهود لم ينته أبداً. فكانت الحرب من جانب اليهود ضد المسلمين، وإعلان هذه الحرب ومداومة القيام عليها حتى مرحلة التآمر على النبيِّ صلى الله عليه و آله و سلم، ومحاولات التخلص منه نهائياً