632- قال في البحر العميق نقلاً عن الطبرابلسي وغيره: "إنّ جميع المسجد - القديم - من عَرَفَة وإن جداره الغربيّ لو سقط، لسقط علي بطن عُرَنَة".
صرّح كثيرٌ من علماء الإسلام بعدم دخول المسجد القديم في عَرَفَة تبعاً للروايات المشتملة علي صفة حجّ رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) فقد روي معاوية بن عمّار حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فقال: حتي انتهي إلي نَمِرَة وهي بطن عُرَنَة بحيال الأراك، فضرب قبّته وضرب الناس أخبيتهم عندها، فلمّا زالت الشمس خرج رسول الله (صلّي الله عليه وآله وسلم) ومعه قريش وقد اغتسل وقطع التلبية حتّي وقف بالمسجد، فوَعَظ الناس وأمَرَهم ونهاهم، ثمّ صلّي الظهر والعصر بأذانٍ واحد وإقامتَين، ثمّ مضي إلي الموقف فوقف به" (6) .
وقد قال الشافعي (وهو مكّي قَرَشي) في اْلأُمّ: "وعَرَفَة ما جاوز وادي عُرَنَة الذي فيه المسجد، وليس المسجد ولا وادي عُرَنَة من عَرَفَة".
وقال النووي في الايضاح: "واعلم أنّه ليس من عرفات وادي عُرَنَة ولا نَمِرَة ولا المسجد المسمّي مسجد إبراهيم - يُقال له أيضاً مسجد عُرَنَة - بل هذه المواضع خارجة عن عرفات علي طرفها الغربيّ ممّا يلي مُزْدَلِفَة ".
أقول: إنّ القاعدة التي ذكرناها في أوّل البحث في خصوص ما إذا اختلف أهل الخبرة في كون المسجد من عَرَفات أو خارج عنها، فإنّ المدار علي الشياع الذي يفيد الاطمئنان بأنّ المسجد ليس من عَرَفَة، علي أنّ ظاهر الصحيحة المتقدّمة أنّه خارج عن موقف عرفات، كما هو الأحوط لهذه العبادة العظيمة.
ومساحة ضلع هذا المسجد القديم من مبتدئه من الناحية الغربيّة إلي منتهاه من الناحية الشرقيّة (مئة ذراع وثلاث وستّون ذراعاً) كما ذكره الأزرقي في تأريخ مكّة، وأنّ مساحة ضلعه من ركنه الشمالي الشرقي إلي الركن الجنوبي الشرقي (مئتان وثلاث عشرة ذراعاً) (7) .
ولكن حصلت زيادات علي القدر القديم للمسجد. فإن كانت هذه الزيادة لجهة المشرق فقد دخلت هذه الزيادة في عَرَفَة كما قال البعض وهو القشيري، فقدقال: "والمسجد - أي القديم - الذي يصلّي فيه الإمام اليوم يوم عَرَفَة هو في بطن عُرَنَة فإذا خرج منه الإنسان يريد الوقوف فقد صار في عَرَفَة".
ولكن إذا أخذنا بهذا القول الشائع والمشهور، وقلنا: إنّ المسجد القديم ليس من عرفات، وقد صلّي النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) الظهر والعصر فيه، فسوف تواجهنا مشكلة ينبغي حلّها، وهذه الشكلة عبارة عن القول بعدم وجوب الوقوف في عَرَفَة من أوّل الزوال إلي الغروب اختياراً، بل يكفي الوقوف بعَرَفَة بعد الزوال بمقدار ما يغتسل ويصلّي ويخطب ويذهب إلي الموقف. بينما ذُكر أنّ وقت الاختيار في الوقوف بعَرَفَة هو من زوال الشمس إلي غروبها وأنّ الركن هو المسمّي وكأنّ هذا من البديهيّات، فقد ذكر الشهيد الأوّل والثاني في كتاب اللُمعة الدمشقيّة وشرحها بأنّ من الواجبات "الوقوف بمعني الكون بعَرَفَة من زوال التاسع إلي غروب الشمس مقروناً بالنيّة المشتملة علي قصد الفعل المخصوص متقرّباً بعد تحقّق الزوال بغير فصل، والركن من ذلك أمر كلّي وهو جزءٌ من مجموع الوقت بعد النيّة ولو سائراً، والواجب الكل" (8) . وقد صرّح غير واحدٍ من الفقهاء بذلك، بل في المدارك نسبته إلي الأصحاب، فيجب مقارنة النيّة للزوال ليقع الوقوف بأسره بعد النيّة، وإلاّ فات جزءٌ منه، ثمّ لو أخّر أثم إلاّ أنّه يجزي كما صرّح به في الدروس (9) .
وهذه المشكلة وإن لم تُحلّ بناءً علي وجوب الوقوف من الزوال إلي الغروب، إلاّ أنّها لا تعيّن القول القائل بوجوب مسمّي الوقوف في عَرَفَات فقط، فإنّ هذا القول يدفعه وجوب البقاء إلي الغروب وحُرمة الخروج من عَرَفات قبله، والكفّارة لِمَن تعمّد ذلك، ووجوب العَود إلي الموقف لو خرج إذا كانت الشمس لم تغرب.
وقد تحلّ هذه المشكلة بأحد حلَّين:
الحلّ الأوّل: (بناءً علي وجوب الوقوف ما بين الحدَّين) بقولنا: إنّ المراد من الوقوف في عَرَفَة هو الوقوف العرفي الذي تكون مقدّماته المشرفة علي الوقوف محسوبة منه، وعلي هذا تكون مقدّمات الوقوف المشتملة علي الغسل والصلاة والخطبة والتهيّؤ للوقوف من الوقوف.
الحلّ الثاني: عدم وجود دليل يثبت وجوب الوقوف ما بين الحدَّين، بل ذكر ذلك بعض الفقهاء، وأمّا الدليل الذي ذكر لنا حجّ النبيّ (صلّي الله عليه وآله وسلم) فهو يدلّ علي أنّ الوقوف يكون بعد الظهر بساعة مثلاً إلي غروب الشمس، وهذا الحلّ الثاني هو الأوفق، إذ إنّ الحلّ الأوّل وإن كان يثبت أنّ مقدّمات الوقوف من الوقوف، إلاّ أنّه لم يثبت أنّ الوقوف كان في عَرفات.
قرائن علي أنّ نَمِرَة من عَرَفَات:
وإلي هنا كنّا نؤيّد القول القائل بأنّ نَمِرَة هي خارجة عن حدود عَرَفَات كما ذكرت دلك الروايات، ولكنْ هناك قولٌ آخر يبيّن أنّ نَمِرَة من عَرَفَات لكنّها خارج موقف الدعاء، وسوف نذكر بعض القرائن علي ذلك:
1- ما قاله في القاموس: "إنّها (أي نَمِرَة) موضعٌ بعَرَفات، أو الميل الذي عليه أقطاب الحَرَم" وحينئذ يكون المراد بمضيّه الرواح إلي الموقف، ميسرة الجبل الذي يستحبّ الوقوف فيه.
2- إطلاق عَرَفات في بعض الأخبار علي ما يشمل (نَمِرَة) أيضاً كما ورد في صحيح معاوية بن عمّار وأبي بصير جميعاً عن الإمام الصادق (عليه السلام) ، حيث قال: "وحدّ عَرَفات من المأزمَين إلي أقصي الموقف" (10) . وهذا الحديث صريحٌ في أنّ ما بعد المأزمَين إلي أقصي الموقف اسمه عرفات،