151وقد قلنا: إن الحج يعبّر عن المعاني والمفاهيم التي تنطوي عليها بلغة الرمز. فعند الميقات يتجرد الحاج عن كل ملابسه وما تحمله من سمات شخصية وطبقية وقومية وإقليمية. إن لباس الإِنسان يحمل هويته ويحمل الإِشارة إلي شخصية الانسان وانتمائه القومي والاقليمي والعقدي وطبقته مهنته ودرجته في الثراء والفقر والمستوي الاجتماعي. فإذا بلغ الميقات تجرد عن ملابسه، ولبس ثياب الإِحرام إزاراً ورداءً. . . وكانا قطعتين من القماش، لم يستعمل فيهما الخيط، كالآخرين علي نحو سواء في غير بذبح ولا شرف ولا تمييز، وخلع عن نفسه ملابسه التي كانت تحمل هويته وتعبر عن شخصيته. إن هذه الخطوة الأولي في الميقات تعبّر عن انسلاخ الانسان عن هويته وشخصيته وأنانيته وتعبر أيضاً عن العبور علي الذات وتجاوز الأنا. وكما يجرد الميت عن ملابسه، لأن دور الأنا في حياته قد انتهي، ولم يعد للأنا حجم ولا دور ولا شكل في المرحلة الجديدة من حياته، كذلك الميقات مرحلة أخري من الحيات ضمن هذه الحياة الدنيا، يتجرد فيها الحاج عن هويته وأنانيته، وينسلخ عن ذاته ليدخل الميقات، وكان الميقات مصفاة، وأول شيء تأخذه هذه المرحلة من الإِنسان هو ذاته، فإذا تجرد عن الأنا وانسلخ عن ذاته حق له أن يتجاوز الميقات إلي الحج، وما لم يتخلص الإِنسان عن ذاته فلا يحق له أن يتجاوز الميقات إلي لقاء الله. فإذا خلص في هذه المصفاة من ذاته اجتاز الميقات وتوجه إلي الحج.
وإن أكثر ما يثير المتاعب في حياة الناس ويعكّر العلاقة فيما بينهم هو التصادم الذي يحدث بين الذوات والأنانيات، وعندما تذوب الذات عند الانسان وتنصهر، ويخلص الانسان من طغيان الأنا، ينتهي شطر كبير من مشاكل الإِنسان، ولقاءاته السبيلة مع الآخرين، وما يستتبعه من صدام وتردي العلاقة، وحالة الأثرة والأنانية، وحب الذات، فإذا خلصت حياته من الذاتية والأنانية تمكن أن يسلم من هذه المشاكل والمتاعب التي تعجّ بها حياة الناس في المجتمع، واستطاع أن يضع حياته وعلاقاته الاجتماعية علي أسس سليمة وأن يحكم السلام في علاقاته مع الآخرين.
التجمل والترف:
وفي الميقات يختص الإنسان مع خصلة أخري من خصال الأنا، وهي خصلة ممدوحة لو كانت في الحدود المعقولة، التي لا تستأثر باهتمام الانسان كله ولا تملك إرادته ولا تحكمها، فإذا تحولت هذه الخصلة إلي خصلة حاكمة علي إرادته كانت صفة ذميمة من صفات الإِنسان، وتلك هي خصلة التجمل، فهي خصلة ممدوحة في الحدود التي تظهر علي الانسان نعم الله تعالي وفضله، فإذا تحولت إلي خاصية من خواص الذات، مهمتها إبراز الذات وإظهارها، لا إبراز نعم الله تعالي وفضله، تحولت إلي صفة ذميمة من صفات الذات، وسلبته القدرة علي تحمل الشظف والسير علي طريق ذات الشوكة.