127وقوله تعالي: فمن تبعني فإنه منّي لا يريد منه الإِشارة إلي قاعدة عامة تتناول كل اتباع إبراهيم من ذريته وغيرهم وإن كانت هذه القاعدة في نفسها صحيحة، ولكن عموم الاتباع حين يقال إنهم من إبراهيم فالمراد به أنهم منه من جهة الإِيمان والولاء المترتب عليه المشار إليه في قوله تعالي: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بل تشير الآية إلي اتباع إبراهيم من ذريته بقرينة صدر الآية وهو دعاء إبراهيم لبنيه دون عموم اتباعه وليس لعموم بنيه، بل لخصوص ورثة إمامته منهم، فالآية ترسي الشرط الثاني لوارث إمامة إبراهيم وهو كون هذا الوارث متبعا لابراهيم اتباعا يجعل منه مع إبراهيم خطا رساليا واحدا فقوله: فإنه منّي لا يريد النسب إذ كلَّ بنيه منه نسباً. سواء المهتدي منهم أو الضال وإنما يريد جهة التسليم التام لأمر الله تعالي.
وهناك أساس ثالث يشير إليه القرآن الكريم وهو أن يكون هذا الإِمام الابراهيمي الهادي بأمر الله معهودا إليه من الله تعالي بواسطة إبراهيم سواء كان نبياً أو لم يكن قال تعالي: ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين. إذ قال له ربه اسلم قال اسلمت لرب العالمين ووصّي بها إبراهيم بنيه ويعقوبُ يا بَنيّ إن الله اصطفي لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون 130 - 132/2.
قوله تعالي: ملة إبراهيم أي دين إبراهيم وطريقته وسيرته وسنته (9) .
قوله تعالي: الا من سفه نفسه أي حمل نفسه علي السفه.
السَّفَه والسَّفاه والسفاهة: خِفة الحِلم وقيل نقيض الحلم ويقال سَفِه فلانٌ رأيه إذا جهله وكان رأيه مضطربا لا استقامة له، وهومن قولهم تسفهت الرياح أي اضطربت وتسفَّهت الريح الغصون: حركتها واستخفتها ومنه قول خلف بن إسحق البهراني:
بعثنا النواعج تحت الرحال
تسافه اشداقها في اللجم
فإنه أراد أنها تترامي بلغامها يمنة ويسرة (10) .
واللغام زبد أفواه الإِبل (11) .
أقول: لما كان السفه نقيض الحلم والحلم كما مر علينا هو الصبر والثبات علي الطاعة وحبس النفس عليها يكون السفيه المشار إليه في قوله تعالي: سفه نفسه معناه الذي حمل نفسه علي المعصية كما في قوله تعاالي: وأنه كان يقول سفيهنا علي الله شططا 4/72 وسفيه الجن هو إبليس الذي فسق عن أمر ربه.
فالسفيه من ذرية إبراهيم هو الذي ترك ملة إبراهيم (عليه السلام) وأخذ يمينا وشمالا واتبع هواه: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضلّه اللهُ علي علم. . .