122أما أمير المؤمنين (عليه السلام) فلم نعرف أنه تجر وقد ظهر الإِسلام وهو صبي، ومع هذا فقد كان أمير المؤمنين (عليه السلام) علي علم من التجارة واحوالها لانها مهنة قومه، ولما ولي الخلافة لم يكن يجهل خطر التجارة وقيمتها، ومن الطريف حقاً أن ننقل بهذه المناسبة مرسوماً أصدره إلي عامله الأشتر في التجار والصناع، فإنه يدّل علي احاطته باسرار التجارة وأخلاق التجار ويعلمنا من جهة ثانية منزلة هذه الطبقة من بين بقية الطبقات وما كان يعلق عليها من مهام، قال:
ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خيراً، المقيم منهم والمضطرب بماله والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع واسباب المرافق وجلا بها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترؤون عليها فانهم سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تُخشي غائلته. . . . إلي آخر) (29) .
ولنا أن نستأنس بشيء آخر له خطره في الدلالة علي ما شغلت التجارة من حياة العرب وأفكارهم واهتمامهم، وذلك هو اللغة والأشعار والأمثال، فإنها تكشف لنا إلي حد بعيد ما كان عليه القوم من عادات واحوال: وأول ما نلاحظ في هذا الباب غني اللغة بالألفاظ التي تتعلق بالأسفار، وما إليها من حط وترحال ونزول علي الماء، ووصف لدواب السفر وضروب سيرها، ولسنا مبالغين اذا قلنا: إن أكثر القصائد في الجاهلية والإِسلام يفتتحها صاحبها بذكر رحلته، وما لاقي فيها هو وراحلته من التعب والشقاء، والضيق والعطش والجوع، عدا ما هناك من ألفاظ كثيرة تتعلق بالبيع والشراء والصفقة الرابحة والخاسرة.
وأما الأمثال التي تتعلق بأمورهم التجارية وأحوالهم فيها فكثيرة وإليك طائفة منها تمثل لنا شيئاً من تجارتهم واحوالهم في أسفارهم:
عند الصباح يحمد القوم السُري - لا تدرك الراحة إلاّ بالتعب - قتل أرضاً عالمها وقتلت أرض جاهلها - أن ترد الماء بماء أكيس - لا يرحل رحلك من ليس معك - إن يدم أظلُك (30) فقد نقب - وإن المنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقي. . . إلي آخره (31) .
هذا مجمل ما أردت أن أعرض له، في بيان اهتمام العرب في التجارة، ولم اقصد فيه إلي شيء من التطويل، وإنما نريد التأكيد علي اسواق العرب في مكة والمدينة ولما لها من أهمية بالغة في حياة العرب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والسياسية آنذاك.
الهوامش:
(1) انظر تفصيل هذا الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر: 414 - 415.
(2) بلوغ الأرب 163:2.
(3)