12بيد انَّ ذلك لا يمنع من القول: إنَّ مكة هي اول أرض تكوّنت من سطح اليابست بعد ان انزاح عنها الماء. اما ان تُفيد الآية أن الكعبة كانت اول بيت فالامر ينطوي علي اشكال كما أشرنا.
الاّ انَّهُ علينا ان نذكر انَّ الآية مثلما لا تثبت فهي لا تنفي أيضاً، ومَرَدُّ ذلك انَّ الجملة الوصفية أو المقيّدة لا مفهوم لها - بالمعني الاصولي - وما ال مفهوم له لا اطلاق له ايضاً. والذي نقصدهُ بانَّ الجملة لا مفهوم لها، انَّ الجملة الوصفية واللقبية ليسَ بمقدورهما ان يقيِّدا الدليل اذا كانَ مطلقاً، لا انَّه بمقدورنا ان نقتنص الإطلاق منهما. وبه يتضح الفرق بين قولنا: إن الجملة لا مفهوم لها وبين كون الدليل مطلقاً.
فالجملة الوصفية أو اللقبية لا مفهوم لها بمعني لا تثبت ولا تُفيد الاطلاق، وانما يكون لها مفهوم في مقام التحديد وَ حسب لذلك اذا دلَّ دليل من الخارج - من خارج الآية - انَّ الكعبة هي اول بيت بني علي سطح الارض، علي اساس ((دحو الارض)) فانَّ الآية لا تخالف ما يدل عليه مثل هذا الدليل. وانما يصعب استظهار مثل هذا المعني من الآية نفسها.
بناء الكعبة:
اِنَّ المقصود من (( البيت)) هو خصوص الكعبة، حيث يقول تعالي في سورة المائدة: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس 12.
((قياماً)) هي مفعول ثان للفعل ((جعل)) . انَّ الله جعل الكعبة أو البيت الحرام يتصف بكونه عنصر قيام لجميع الناس.
وستتضح العلاقة بين هذه الصفة، وبين ما رأيناه في الآية مورد البحث، من انَّ البيت ينطوي علي سرّ البركة والهداية للناس كافة.
وما ينبغي ان نشير اليه انَّ البيت كانَ موجوداً قبل ابراهيم ( عليه السلام) ، الاّ انَّ عوامل كثيرة اثَّرت عليه من قبيل الطوفان، فلم يبق علي هيئته الاولي.
وحين قام ابراهيم ( عليه السلام) بتشييد البيت ورفع قواعده، أصبحنا منذ تلك اللحظة أمام معالم واضحة لتاريخ البيت ومساره علي مرَّ العصور.
واحدة من هذه المعالم، يحدثنا عنها ما يحكيه سبحانه علي لسان إبراهيم، في سورة ابراهيم، حيث يقول عليه السلام: ربنا إني اسكنت من ذرّيتي بوادٍ غير ذي زرع عند بيتك المحرَّم 13 فحين ترك الخليل زوجته هاجر وولده اسماعيل ( عليهما السلام) ، في هذه الارض القفرة وَهمَّ بوادعهما، سألته هاجر: ((الي من تدعني؟)) فاجاب: الي ربّ هذه البنية.
لذلك يقول ابراهيم ( عليه السلام) : ربنا اني اسكنت. . . ثم بيَّن ما يقصده بما يحكيه القرآن علي لسانه: ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل افئدة من الناس تهوي اليهم وارزقهم من الثمرات لعلّهم يشكرون 14 لانك انت ((مقلب القلوب)) . ولقد قالل ابراهيم افئدةً من الناس وإلاّ لو كان الخليل ( عليه السلام) قد قال - كما يذكر الطبري في تفسير الآية -: افئدة الناس لحج جميع الناس سواء منهم اليهودي والنصراني واصحاب الملل الاخري.
لم تكن مكة أرضاً مواتاً يمكن استصلاحها لتعمر بالنبات والزرع وانما كانت أرضاً جبلية صخرية تفتقر الي الماء. لذلك عبَّرت الآية في دعاء الخليل ( عليه السلام) عن وادي مكة بانَّهُ غير ذي زرع وَلم تعبّر عنه بانَّهُ (( لم يزرع)) اذ لو كانت الارض صالحة للزراعة، بيد انها مهملة بانصراف الجهد الانساني عنها، لقيل عنها (( لم تزرع)) من باب (( عدم الملَكة)) أما أنّها غير صالحة للزراعة والاعمار اصلاً فقد عبر عنها بانهار (( غير ذي زرع)) .