118كان قاصد هذه الأسواق أيام الحج، موزّع السمع بين داع إلي ثأر وناشد ضالة، ومنشد قصيدة، وخطيب، وعارض بضاعة، وحامل مال لفك أسير، وقاصد شريف لإِجازة أو حمالة، وداع إلي عصيبة، وآمر بمنكر. . . فيجد شيئاً معروفاً قد ألفه منذ عقل وأبصرالدنيا. لكنه بعد عام الفيل بثلاث واربعين سنة يجد أمراً لم يألفه قط، ولا سمع بمثله: رجلاً كهلاً وضيئاً عليه سمات الوقار والخير، يسأل عن منازل القبائل قبيلة قبيلة: هذه بنو عامر بن صعصعة، وهذه محارب وتلك فزارة، والرابعة غسان، وهناك مرة وحنيفة، وسليم وعبس، وهنا بنو نصر وكندة، وكعب وعذرة، وهؤلاء الحارث بن كعب وأولئك الحضارمة. . . إلي آخره.
يؤم منازل كل قبيلة، ويقصد إلي شريفها يدعوه بالرفق إلي الله، وفعل الخير، فيتجهم له هذا، ويعبس ذاك، ويجبهه ذلك ويحقره آخر. . . . . فيلقي من الصد ألواناً يضيق ببعضها صدر الحليم. فلا يؤيسه ما لقي، ولا يكفه ما أوذي، فيمضي متّئداً حزيناً إلي قبيلة أخري وشريف آخر يعرض نفسه عليهم ويقول: "هل من رجل يحملني إلي قومه فإن قريشاً قد منعوني أن أبلّغ كلام ربي" فلا يجد مجيباً، حتي تدارك الله نبيه بوفد الأنصار.
هذا ما حفظته لنا كتب السير والأدب من مشاهد مؤثرة، فرأينا أن تلك الأسواق لم تخل من دعوة إلي الخير، فقد تردد في أجوائها الصوت الضعيف الخافت، يطلب حماية واجابة. ولئن صدف عنه الناس وازوروا في اسواق الجاهلية. لقد ملأ هذا الصوت فيما بعد ما بين المشرق والمغرب، وطبّق الخافقين بآثاره التي بثها في العالمين رحمة وعدلاً وعلماً وانسانية وسعادة ومُثلاً عليا. وما زال يستجيب لهذا الصوت كل يوم، افواج من أمم الحضارة والعرفان، في آسيا وأروبا وأمريكا صدّ عنه قديماً أحلاف البادين، وهرع إليه اليوم زمرُ المتحضرين من كل عالم ومخترع ومصلح وأديب وسياسي، ومفكر يستضيء بعلمه وفكره الملايين من الخلائق.
فلنأخذ من هذه الأسواق العبرة، ولنحتفظ بهذا الدرس، فإن الحق مهما بدا ضعيفاً وبدا خصيمه الباطل قوياً صائلاً، لا بد من أنه ظافر في النهاية عليه. ولنعلم أن اليأس لا ينبغي أن يجد سبيلاً إلي قلب المؤمن، وأنه: -
إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون .
رابعاً: سوق دومة الجندل:
دوُمة الجندل ويقال (دوماء الجندل) كلاهما بالضم (20) ، بلد يقع في نقطة متوسطة بين الشام والخليج الفارسي والمدينة، أقرب إلي المدينة من الشام والخليج الفارسي.