117إذا انقشع الناس عن مجنّة حين يهّل ذو الحجة، ساروا بأجمعهم إلي هذه السوق، وأقاموا بها حتي اليوم الثامن من ذي الحجة، وهو يوم التروية، سمي بذلك لأنهم كانوا يرتوون فيه من الماء ويملؤون أوعيتهم لما بعده إذ لاماء بعرفه. وإلي هذه السوق تتقاطر وفود الحجاج من سائر العرب ممن شهد الأسواق قبلها، أو لم يشهدها وأتي للحج خاصة، إذ إنّ ذا المجاز من مواسم الحج عندهم.
تحفل ذو المجاز لوقوعها أيام الحج بجموع العرب وتجارتهم وأشرافهم، وهي تلي عكاظ في الشأن، ويجري فيها ما يجري في هذه من تبايع وتناشد وتفاخر وفداء أسري وطلب ثأر. . . إلي آخره، يقصدها صاحب الثأر ليعرف فيها واتره، فيتربص به بعد انقضاء الشهر الحرام إن كان من المحرمين وإلا عاجله فأخذ بثأره وإليك بعض أحداثها:
روي الأصفهاني: "أن قيس بن الخطيم لم يزل يلتمس غرة من قاتل أبيه وجده في المواسم حتي ظفر بقاتل جده بذي المجاز، فلما أصابه وجده في ركب عظيم من قومه، ولم يكن معه إلاّ رهط من الأوس، فخرج حتي أتي حذيفة بن بدر الفزاري فاستنجده فلم ينجده، فأتي خداش بن زهير فنهض معه ببني عامر حتي أتوا قاتل عدي (جد القيس) فإذا هو واقف علي راحته في السوق، فطعنه قيس بحربة فقتله ثم استمر. فأراده رهط الرجل فحالت بنو عامر دونه. . . إلي آخره".
ويروي الجاحظ أن حالف ابو الأزيهر الدوسي وكان عظيم الشأن في الأزد أبا سفيان بن حرب عظيم بني أمية، وكان بين أبي الأزيهر هذا وبني الوليد بن المغيرة محاكمة في مصاهرة. فإن أبا الأزيهر لقاعد في مقعد أبي سفيان بسوق ذي المجاز إذ جاء هشام بن الوليد فضرب عنقه في مقعده ذاك بذي المجاز وانتظر الناس أن يأخذ ابو سفيان بثأر حليفه من هشام فلم يفعل ولم يدرك به عقلاً ولا قوداً من بني المغيرة، وتحدث بذلك أهل السوق من قبائل العرب وراجت في الناس حتي عيروا بها أبا سفيان وحتي قال حسان بن ثابت فيها:
غدا أهل حضني ذي المجاز بسحرة
هذه الأسواق الثلاث: عكاظ ومجنّة وذو المجاز التي كانت تقوم في أيام الحج ويؤمها العرب قاطبة من كل حدب وصوب، شهدت إلي جانب مناظر البيع والشراء، والمفاخرة والانشاد، مشهداً من أفظع مشاهد الجفاء والتنكر والأذي لصاحب الشريعة الاسلامية محمد (صلّي الله عليه وآله وسلم) وابتلعت تلك الأسواق بضجيجها وما كانت تعجّ به من حوادث، صوت الدعوة الإِسلامية فيما ابتلعت من دعوات، وغاب صوت صاحبها في ذلك الرغاء والصخب والزحام، فلقد مكث الرسول (صلّي الله عليه وآله وسلم) بمكة مستخفياً ثلاث سنين ثم اعلن في الرابعة ودعا الناس إلي الإِسلام عشر سنين يوافي فيهن المواسم كل عام، يتبع الحاج في منازلهم بعكاظ ومجنة وذي المجاز يدعوهم أن يمنعوه حتي يبلغ رسالات به، فلا يجد أحداً ينصره أو يجبيه، حتي إنه ليسأل عن القبائل ومنازلها قبيلة قبيلة فيردّون عليه أقبح الرد ويؤذونه ويقولون له، "قومك أعلم بك" (19) .