112
آلم * غلبت الروم * في أدني الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون * في بعض سنين. . .
هذا هو مجمل ما أردت أن أعرض له من بيان إهتمام العرب بالتجارة وإليك - أيها القارئ - أهم الأسواق وسياستها التجارية في مكة والمدينة: -
(أسواق مكة والمدينة)
أولاً: - سوق عُكاظ:
عكاظ هي المعرض العربي العام أيام الجاهلية، معرض بكل ما لهذه الكلمة من مفهوم لدينا نحن أبناء هذا العصر: فهي مجمع أدبي لغوي رسمي، له محكّمون تضرب عليهم القِباب، فيعرض شعراء كل قبيلة عليهم شعرهم وادبهم، فما استجادوه فهو الجيد، وما بهرجوه فهو الزائف.
وحول هذه القِباب الرواة والشعراء من الأقطار العربية عامة، فما ينطق الحكم بحكمه حتي يتناقل أولئك الرواة القصيدة الفائزة، فتسير في أغوار الجزيرة وأنجادها، تلهج بها الألسن في البوادي والحواضر. يحمل إلي هذه السوق التهامي والحجازي والنجدي والعراقي واليمامي واليمني والعماني، كل ألفاظ حيّة ولغة قطرة، فما تزال عكاظ بهذه اللهجات نخلا واصطفاءً حتي يتبقي الأنسب الأرشق ويطرح المجفّو الثقيل.
وعكاظ هي السوق التجارية الكبري عامة، يحمل إليها من كل بلد تجارته وصناعته كما يحمل إليها أدبه، فاليها يجلب الخمر من هجر والعراق وغزة وبصري، والسمن من البوادي ويرد إليها من اليمن البرود الموشاة والأدم، وفيها الغالية وأنواع الطيب وأدوات السلاح، ويباع فيها الحرير والوكاء والحذاء والمسيّر والعدني يحملها إليها التجار من معادنها، وفيها من زيوت الشام وزبيبها وسلاحها ما اعتادت قريش أن تحمله في قفولها إلي مكة. ويعرض فيها كثير من الرقيق الذي ينشأ عن الغزو وسبي الذراري فيباع فيها بيع المتاع التجاري.
ويبيع فيها كلُّ غازٍ ما سلبه وكثيراً ما يكون هذا البيع سبباً في قتل صاحبه إذا أبصر السلاح أحد من ذوي المقتول فعرفه، فإنه يضمرها في نفسه وينتظر أن يظفر بالرجال ليثأر منه.
وتصل من تجارة فارس أشياء إلي عكاظ: فإن النعمان بن المنذر ملك الحيرة كان يبعث إلي سوق عكاظ كل عام لطيحة (وهي في الأصل العير المحملّة مسكاً) في جوار رجل شريف من أشراف العرب، يجيرها له ويحميها من كل معتدٍ حتي تصل سالمة إلي عكاظ؛ فتباع هناك ويشري بثمنها ما يحتاج إليه من أدم (جلود) الطائف وسائر المتاع إلي عكاظ: من حرير وعصب مسيّر، وبيعت فيها حلّة ذي يزن فاشتراها حكيم بن حزام ليهديها رسول الله (1) ، بل إن عكاظ نفسها مشهورة بما يعرض فيها من جلود حتي قالوا: "أديم عكاظي" نسبة إليها.
حتي البضائع المجهولة الأصل المعروضة في عكاظ تجد من شرائع القوم واعرافهم التي التزموها ما يجعلها كاسدة لا يرغب فيها أحد، فهذا بعض لصوص العرب "قربّ إبلاً للبيع في سوق عكاظ وكان أغار عليها من كل وجه، فلما عرضها قيل له: "ما نارك؟ " (أي ماسمة إبلك؟ وكانوا يعرفون علامة كل قوم التي يسمّون إبلهم بها ويعفون كرمها من لؤمها) فلما كثر ذلك عليه أنشأ يقول: