54و لايتصور أحدٌ أننا ندعو إلى أن يعتزل الحاج بيته، وتجارته، وعلاقاته الاجتماعية، عند ما يعود من الحج، فليس هذا من دين الله في شيء. . . بل العكس هو الصحيح. . . فإنّ الحياة العائلية، والعمل، والتجارة، والعلاقات الاجتماعية، مما يدعو إليه الإسلام دعوة حثيثة.
و إنّما الذي ندعو إليه بشكل دقيق، هو أن نعرف كيف يحافظ المرء على خزين الحج، وتعبئته النفسية العالية في وسط المراكز الثلاثة التي عددناها آنفاً، دون أن يعتزلها، أو يقاطعها؟ فإنّ هذه المقاطعة والاعتزال، ليس من دين الله إطلاقاً.
كيف نحافظ على مكاسب الحج؟
و الآن نطرح الاجابة عن هذا السؤال، في دراسة موجزة إن شاء الله، فأقول:
إنّ أهمّ العوامل الواقية التي تحفظ الإنسان، وتحفظ له ما اكتسبه في الحج من التسرّب والاستهلاك في ساحات الحياة الثلاثة، هي التقوى والذكر، وإليك تفصيل ذلك.
1. التقوى
التقوى هو اللباس العازل الذي يحفظ الإنسان من العوامل الموضوعية في البيئة والوسط، من الفتن والمغريات، ومن العوامل النفسية، داخل النفس، من الشهوات والأهواء، ومن دور الشيطان في إثاره الأهواء والشهوات تجاه الفتن والمغريات، وتجميل الفتن والمغريات للأهواء والشهوات، وهذا هو الدور الرئيسي للشيطان في إغواء الإنسان وتسقيطه، وهو دور الوساطة بين الأهواء والفتن، (دور السمسار) .
و التقوى هو اللباس العازل الذي يحفظ الإنسان من ثلاثية الابتلاء (الأهواء - الفتن - الشيطان) دون أن يعتزل الإنسان حياته العائلية، وعلاقاته الاجتماعية، وعمله، وتجارته، وحركته الاقتصادية.
وما من عامل يقوى على حماية الإنسان من ثلاثية الابتلاء مثل (التقوى) . و التقوى هو ضبط النفس عند الحدود الّتي حدّدها الله تعالى لعباده.
و قد أفاد الحج الحجاج ضبط النفس بدرجة عالية، وبمقاييس واسعة وكبيرة في محرمات الإحرام، منذ لحظة التلبية إلى أن يخرج من حالة الإحرام.
و إذا كان الحاج قد تحلّل من محرمات الإحرام بعد السعي، وطواف النساء والوداع، فإنّ خزين التقوى وضبط النفس الذي اكتسبه الحاج في هذه الدورة المكثفة يبقى معه.
و التقوى خير ما يحفظ الحاج بعد عودته من الحج، و يحفظ له ما اكتسبه في الحج من معرفة الله، وحالة القرب إلى الله، والبصيرة، وشفافية القلب، وقوة النفس، والعزم في طاعة الله، والإخلاص لله، والإخبات إليه، وذكر الله، وحالات الأنس بذكر الله، والشوق إلى لقاء الله، وحبّ الله، وما لا أحصيه من مكاسب الحج العظيمة.
فإنّ الإنسان ما لم يتلوّث بالذنوب والمعاصي، والانشغال بالدنيا عن ذكرالله تبقى له هذه المواهب، ولا يفسدها شيء مثل (الذنوب) و (الانشغال بالدنيا عن ذكر الله) .