98وحين اتسعت الدولة الإسلامية ورأى المسلمين يجاملون ولاتهم، أرسل كلماته المنذرة: هلكوا ورب الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى عليهم، ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين. . وكان أكثر ما يخشاه هو أن يأتي على المسلمين يوم يصير بأس أبنائهم بينهم شديد.
وكان أبي بن كعب من ورعه وتقواه يبكي إذا ذكر الله تعالى، ويهتز كيانه حين يرتل آيات القرآن أو يسمعها، وكان إذا تلا أو سمع قوله تعالى: قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآْياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (46) ، يغشاه الهم والأسى.
وقد روي أن رجلاً من المسلمين، قال: يا رسول الله! أرأيت هذه الأمراض التي تصيبنا وما نلاقيها؟ قال: (كفارات) ، فقال أبي ابن كعب: يا رسول الله! وإن قَلَّتْ؟ قال: (وإن شوكة فما فوقها) ،
فدعا أبي أن لا يفارقه الوَعْك حتى يموت، وأن لا يشغله عن حج، ولا عمرة ولا جهاد، ولا صلاة مكتوبة في جماعة، فقال أبو سعيد الخدري2: فما مس إنسان جسده إلا وجد حرَّه حتى مات. (47)
وقد كان أبي2 مستجاب الدعوة، فيحكي ابن عباس أن عمر بن الخطاب2 قال لجمع من الصحابة: اخرجوا بنا إلى أرض قومنا. فكان ابن عباس مع أبي بن كعب في مؤخرة الناس، فهاجت سحابة، فدعا أبي قائلاً: اللهم اصرف عنا أذاها. فلحق ابن عباس وأبي الناس، فوجدوا أن رحالهم ابتلت: فقال عمر: ما أصابكم؟ (أي: كيف لم تبل رحالكما؟) فقال ابن عباس: إن أبيَّا قال: اللهم اصرف عنا أذاها. فقال عمر: فهلا دعوتم لنا معكم.
وقعة الجابية
شهد أبي بن كعب مع عمر بن الخطاب وقعة الجابية، وقد خطب عمر بالجابية فقال: أيها الناس من كان يريد أن يسأل عن القرآن فليأتِ أبيَّ بن كعب. . .
وأبي هو الذي كتب كتاب الصلح لأهل بيت المقدس، حيث جاء عن أبي الحويرث، قال: كان يهود من بيت المقدس، وكانوا عشرين رأسهم يوسف بن نون، فأخذ لهم كتاب أمان، وصالح عمر بالجابية، وكتب كتاباً، ووضع عليهم الجزية، وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم، أنتم آمنون على دمائكم وأموالكم وكنائسكم ما لم تحدثوا أو تؤوا محدثاً، فمن أحدث منهم أو آوى محدثاً، فقد برئت منه ذمة الله، وإني بريء من معرة الجيش؛ شهد معاذ بن جبل، وأبو عبيدة بن جراح، وكتب أبيّ بن كعب» . (48)
أقواله ووصاياه
وكان لا يخاف في الله لومة لائم، وكان من الذين لا يطلبون من الدنيا عرضاً، فليس لها نصيب في قلوبهم، فعندما اتسعت بلاد المسلمين ورأى الناس يجاملون ولاتهم في غير حق قال:
هلكوا وربِّ الكعبة، هلكوا وأهلكوا، أما إني لا آسى (أحزن عليهم) ولكن آسى على من يهلكون من المسلمين.
وقال: ما ترك أحد منكم لله شيئاً إلا آتاه الله ما هو خير له منه من حيث لا يحتسب، ولا تهاون به وأخذه من حيث لا يعلم إلا آتاه ما هو أشد عليه من حيث لا يحتسب. وقال له رجل - ذات يوم -: أوصني فقال له أُبيُّ: اتخذ كتاب الله إماماً، وارض به قاضياً وحكماً، فإنه الذي استخلف فيكم رسولكم، شفيع، مطاع، وشاهد لايتهم، فيه ذكركم وذكر من قبلكم، وحكم ما بينكم، وخبركم وخبر ما بعدكم.